أطلقت عليها الثورة رصاصة الرّحمة: حكم التكنوقراط آخر مآل تلجأ إليه منظومة هيمنة سياسيّة واجتماعيّة، مركزيّة وحداثويّة

Photo

تحيل الهيمنة المفرطة لمفهوم "الكفاءة التقنية" والتكنوقراط على الخطاب السياسي التونسي على فكرة "الحداثوية المتعالية"، كما سماها جايمس سكوت في دراسته للتجارب السوفياتية والنازية والتاتشرية والريغنية، أو الهندسة الإجتماعيّة في نقد كارل بوبير لتجارب الشموليّة السياسيّة، أو الإرادويّة التنمويّة كما سماها عبد القادر الزغل في نقده لمآلات مشروع الدولة الوطنيّة في تونس.

في كل الحالات، تستبطن هذه المفاهيم مقولة أساسية: وهي أنّ الدّولة هي بمثابة "الجهاز العصبي" للمجتمع، بعبارة إيميل دوركايم، فيما وجب على الفاعلين الاجتماعيّين الأكثر تنوراً ومعرفة وخبرة برمجة المجتمع وتخطيطه وهندسته (كثيراً ما يكون ذلك من خلال تحالف هيمني لطبقة المسيّرين الإداريّين والمهندسين).

طبعاً، أفرز ذلك تجربة التجميع السوفياتيّة، والدولة-الحزب النازيّة، والدولة-الشركة النيوليبراليّة. وكلها كانت، بشكل أو بآخر، مخططات عظمى وورديّة لتغيير الوضعيّة البشريّة، غير أنّ مآلاتها كانت قاتمة قتامة الدّم في غالب الأحيان.

في المقابل، تكمن نقطة الضعف الأساسيّة في كلّ هذه الأشكال من الهندسة الاجتماعيّة، ذات البعد التقني والتحديثي، في تعاميها عن الممارسات والمسارات اللانظاميّة والصغرى التي تعتمل في صلب المجتمع. فما يجري في صلب المجتمع لا ينعكس، ضرورة، في هرمه، ولا يتطابق مع الرؤى التي تصورها العقول المتعالية.

من ذلك، الهيمنة الاجتماعيّة بمختلف أشكالها، الطبقيّة والجهويّة والجندريّة، وتصادم الثقافة التقنيّة مع الثقافة الشعبيّة، والانزياح الصّارخ بين الأهداف التحديثيّة الكبرى وحاجات المجتمع الصغرى. على أساس هذا النّقد، قامت مشاريع الحكم التشاركي واللامركزي، من صياغاتها الأناركيّة الجذريّة الواعدة بإلغاء الدولة، إلى صياغاتها الليبراليّة المعدّلة الواعدة بالحكم المحلّي التشاركي.

في كلّ الحالات، ما تعد به هذه المشاريع هو شكل أكثر سيولة وانفتاحاً وتجذّراً من الحكم، يفسح المجال لمسارات المجتمع الصغرى حتى تتآلف وتشكّل ديناميّاته الكبرى، لا العكس. أي، لو جاز استعمال الاستعارة البورقيبيّة، أن يتآلف الشذر والمذر (la poussière d'individus) في بناء مؤسّسات جماعيّة، عوض أن تبثّ فيهم نخبة متعالية نورها لتجمعهم قسراً في مشكاة واحدة.

هنا، يجوز طرح بعض الأسئلة: أليست الدعوة إلى حكم التكنوقراط نفياً لقدرة المجتمع على التحكم في مساراته بنفسه، بشكل تشاركي ومفتوح، قبل أن تكون نفياً لقدرة الأحزاب على ذلك؟ أليست هذه الدعوة، أيضاً، شكلاً من الشموليّة المداورة، التي تتقنّع بمقولات الكفاءة والخبرة والجدارة التقنيّة؟ كيف يمكن أن تتعايش الدعوتين، الدعوة إلى حكم التكنوقراط والدعوة إلى الحكم المحلّي، في ذات العقل والتكوين السياسي (أي الرئيس ومحيطه السياسي)؟ أليست هذه الدعوة إلى حكم التكنوقراط آخر مآل تلجأ إليه منظومة هيمنة سياسيّة واجتماعيّة، مركزيّة وحداثويّة، أطلقت عليها الثورة رصاصة الرّحمة؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات