هل يعني الزوالي أنّك إسلامي أو قومي عربيّ أو ماركسيّ لينينيّ؟

Photo

لو أردنا أن نعتصم بالعقل ونترك هذا التهارش الذي لا ينتهي لوجدنا حلولا جامعة مانعة.. الدول التي تحاربت وذهب ملايين من مواطنيها حطبا لحروبها انتهت إلى معاهدات سلام وتقدّمت باتجاه وحدة جعلت منها جسدا واحدا ينطق باسمه برلمان واحد.. ولا أحد، اليوم في أوروبا المتعدّدة، يعيّر الألمان بأنّهم كلّهم نازيّون…

ألا يقول جميع الفرقاء المتهارشين أمام الشاشات وعند منصّات التواصل إنّ الحقيقة ليست حكرا على أحد وإنّ الصواب ليس لجهة دون سواها؟ ألا يجتمع هؤلاء على أنّ الحقيقة نسبية ويردّدون دوما عبارة " رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غير خطأ يحتمل الصواب"؟

ما ضرّ لو أنّهم قصدوا ما قالوا وتركوا للاحتمال منفذا في جدران دوغمائياتهم السمجة؟ هل يرى هؤلاء لإدارة خلافاتهم الجوفاء طريقا آخر غير طريق الحوار الموصل إلى المشترَك؟ هل يرغبون، مثلا، في اندلاع حرب أهلية طاحنة بينهم تفني أحد الطرفين أو كليهما؟

لو أنّنا استسلمنا إلى ما تفيض به صفحات بعض الموتورين من هؤلاء وأولئك من عنف وعفن لظننّا أنّ كلّ طرف يجمع أسلحته لإعلان ساعة صفر يشنّ فيها هجوما ماحقا ساحقا يضع فيه نهاية لخصمه لتخلوَ البلاد له وحده…

ولو أنّنا ظللنا نتحاكم إلى التاريخ ويفتّش بعضنا في دفاتر بعضنا الآخر لما انتهينا إلى حلّ ولما فعلنا نافعا للناس ونحن نتغنى بالشعب نرتّل أناشيد عشقه ونتغنّى بهمومه و"بقفّة الزوالي" الفارغة التي تنتظرنا لها…

هل يعني الزوالي أنّك إسلامي أو قومي عربيّ أو ماركسيّ لينينيّ؟ هل يغنيه إن كنت من حرّاس العقيدة أو من سدنة العروبة أو من تلاميذ المادية الجدليّة؟ هل يهمّه أنّك ذراع للممانعة أو لسان دفاع الشريعة؟ لماذا يصرّ حراس الأطلال الإيديولوجية الدارسة على إقحام الشعب المقهور في صراعات هوَسهم؟

هؤلاء مرضى يحتاجون عناية مركّزة ومداوتُهم تقتضي حجرَهم والحجرَ عليهم حتى لا تتسرب عدواهم إلى أجيال تنفست الحرية ولا يعنيها أن يكون الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رحمه الله، حكم دولة اسمها مصر بين خمسينات القرن العشرين وستيناته وخاض حرب إبادة ضدّ جماعة اسمها جماعة الأخوان المسلمين كانت تنازعه الحكم…

أليس أن "تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون"؟ إنّه ليس أشدّ خيانة للوطن والأمّة من ادّعاء الطهورية والأستاذية في قيمة من القيم وتجريد الخصم منها لا لشيء إلّا لأنّنا نكرهه... أنت لستَ ما تصف به نفسَك.. وخصمُك ليس كما تراه.. حاول أن تلبس أنت صفاتِهِ التي تصفه بها وأن تُلبِسَهُ ما تزيّن به نفسك من مشتهى صفاتك.. ستنتهي إلى صورتين متناقضتين ليستا لكما.. وسترى أنّك في مأزق عقليّ لا تُحسَد عليه…

العقل يقول: لا يمكنك أن تكون حكَمًا على من هو خصمٌ لك تقول فيه ما تشاء وتصدّق نفسَك وتريد من غيرك أن يصدّقك... والعقل يقول: لا يمكن أن تتبنّى سردية نشأت في أروقة نظام سياسيّ غير ديمقراطيّ لجماعة كانت خصما لذلك النظام.. خاصّة إذا كان ذلك النظام وتلك الجماعة من دولة أخرى من سياق تاريخيّ مختلف... وليس من العقل أن تبقى، حياتَك، تجترّ ما كتبته تقارير ذلك النظام في خصومه من تلك الجماعة…

أبناء حركة الشعب ليسوا من الضبّاط الأحرار وأبناء حركة النهضة ليسوا من جماعة الإخوان المسلمين.. الزمان تغير والجغرافيا غير الحغرافيا واللحظة التاريخية مختلفة... كانت عداوة عدَميّة لم تنته إلى فناء أحد الفريقين.. فلماذا نصرّ على استئنافها؟ عبد الناصر توفّاه الله إليه وبقي له أتباع.. وجماعة الإخوان المسلمين لا تزال على قيد الحياة.. فهل نحن مُجبَرون على إعادة إنتاج سيرتهم؟

ما دامت العداوات لا تدوم فلماذا نغذّي العداوة بين مواطنين تونسيين بطعام مضى عليه قرابة قرن من الزمان؟ لقد تعفّن ذلك الطعام وتحوّل.. فإذا طلبتَه للغذاء لن يفيد الطعام لأنّه قد فسد.. وإن جعلت منه سمّا لتقتل من تكره فما عاد السمّ صالحا للقتل.. ابحث لك عن سمّ جديد... وطعام جديد…

لماذا، إذن، نصرّ على معاودة القديم نحبس أنفسنا عليه ونحبس أنفاسنا فيه ونبقى أسرى له؟ أليست أنفاس الحرية والديمقراطية أجلّ وأجمل؟

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات