تفكيك بن بريك.. عجة بالمولوتوف

Photo

دأب رسّام الكاريكاتير التونسي (مجهول الهوية) "زاد" على نشر رسومات لشخصيات سياسية من خلال ما يعرف في الطب بالـ"قطع النصفي"، وهي حيلة بصرية ذكية يكشف من خلالها مرجعيات هذه الشخصية أو تلك، بأسلوبه الساخر المعروف. لا نذكر أن "زاد" قد اشتغل على توفيق بن بريك كاريكاتورياً، ولكن مسارات هذا الكاتب التونسي تدعو إلى تطبيق فكرة "زاد" عليه، فماذا يمكن أن نجد في رأسه؟

لا شكّ أول ما سيعترضنا صورة كبيرة لماركس، فقد حضرت أدبياته وأدبيات أبنائه الرمزيين وأحفاده في لغة بن بريك، من ثورة دموية قادها ماو في الصين إلى استحضار اغتيال أليندي في تشيلي. سنجد أيضاً شخصيات من الأدب الروسي، ربما الأمير مشكين أو أبطال رواية "الحرس الأبيض" لبولغاكوف، ولا شك بأن شخصيات من الأدب الفرنسي ستحضر، وسيحضر شكسبير بالتأكيد، بمسرحياته الدموية بالخصوص، سنجد أيضاً مرجعيات من السينما والأدب الأميركيين؛ كوبوي تطارده الشرطة في الصحراء أو زعيم مافيا يصفّي حساباته مع خصومه أو لقطة صاخبة من فيلم "أوبوكالبس"، وهذا يحيلنا إلى معطى مركزي في فهم بن بريك للماركسية، فالماركسية عنده لا تأتي إلا ملوّنة بظلال عائلة فكرية ليس بعيدة عن مرجعياتها، هي الفوضوية، ولذلك فإن أبطال بن بريك ليسوا العمّال المضطهدين أو الطبقات المسحوقة، وإنما هم الخارجون عن النظام أو المنظومة، سواء كان ذلك طواعية أو كرهاً.. من هذا الثقب تسلّل "نبيل القروي" وحجز مكانا مهمّا في رأس بن بريك ملاصقا لصورة ماركس.

لكن كيف لهؤلاء أن يجتمعوا في مكان واحد؟ ماركس والقروي معاً، من يصدّق ذلك؟ ترى كيف تمّ السير في هذا الطريق، من ذلك المناضل ذو الصوت العالي في زمن بن علي، وأكثر من أحرجه بالسخرية والثقافة العالية والضغط الدولي، إلى ورقة انتخابية في حملة "قلب تونس"؟

قد لا نفهم أحياناً أن الـ"مع" والـ"ضدّ" قد يكونان وجهان للعملة ذاتها. أن تكون "الكلب" (استعارة من عنوان أحد كتب بن بريك) الأكثر شراسة في وجه "صانع التغيير" لا يعني أنك لست مستفيداً، فقد يحدث أن تصبح الكلب الأكثر وداعة لدى تابع من أتباع "صانع التغيير"، وأن تتحوّل الشراسة (الثقافية) إلى أداة هرسلة في وجه خصوم يبدون في الواجهة ضمن العائلة الفكرية لبن بريك، ولكنهم ليسوا كذلك، وها أن مفترقات الثورة ومنعطفاتها قد كشفت أين يتخندق كل طرف.

ربما كان بن بريك مثقفاً فريداً، يمكنه أن ينشر نصاً في "لوند" الفرنسية أو "نيويورك تايمز" الأميركية، كاتب هضمت نصوصه أدب العالم على عكس معظم المدونة الأدبية التونسية، وقد يكون الأجرأ في إسقاط "هيبة الدولة" ونزع تعاليها، ولكنه يبدو أكثر من يكرّسها حين يأتي زمن الجدّيات، ألم يخض معركة وجودية ضد المرزوقي لصالح "هيبة الدولة" التي يمثلها الباجي قائد السبسي في الانتخابات الرئاسية الماضية؟ كان بن بريك صوتاً ضمن جوقة جماعية ظهرت في الصحافة التونسية قلبت مشهد الإعلام رأساً على عقب، حين أنشأ جريدة "ضد السلطة" بخطاب فريد وقاطع، لكنه أين يظهر اليوم؟ ومنذ سنوات؟ في "قناة نسمة"، في نفس البرمجة التي تقدّم "حريم السلطان" و"قطوسة الرماد"..

هكذا تفضي تلك المادة الثقافية التي يقترحها خطاب بن بريك إلى خواء في كل مرة. ما الذي يقترحه في النهاية كمثقف للتونسيين؟ وهل أتت هذه الثقافة الغزيرة بأكثر من إشباع نرجسيات ذاتية وتلبية مطالب أصحاب المصالح؟

شيئاً فشيئاً تتفسّخ صورة ماركس وشكسبير وبولغاكوف، ولا يبقى في رأس بن بريك سوى.. نبيل القروي، ومن ورائه دسائس السياسة والمال والإعلام التي تحتاج مثقفاً صوته عال، رأسه محشوّ بمرجعات ثقافية لم يسبق للتونسيين أن تداولوها، ومن هؤلاء يصنع كوكتيل مولوتوف يخفيه في جيوبه لاستعماله تحت الطلب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات