الشاهد :النيزك الذي بسرعة احترق

Photo

تنويه : هذا المقال هو الثاني في سلسلة من المقالات التي اتناول فيه الخاسرين في الانتخابات الرئاسية 2019

قدم يوسف الشاهد الى عالم السياسة بعد الثورة تماما كما كان حال قيس سعيد رغم انهما انطلقا من خلفيات وتجارب و رؤى مختلفة ففي حين ارتمى قيس سعيد في أمواج الشباب الهادر في ساحة القصبة رغم فارق السن رغبة منه في التدارك فان يوسف الشاهد رغم حداثة سنه قد آثر أن يطرق أبواب الأحزاب و راهن على ما كان الجميع يعتقد انه الحصان الرابح آنذاك الحزب ا الجمهوري (لديموقراطي التقدمي سابقا) .

كان الأول صوفيا و حالما نازعا الى الفوضى أحيانا و لكنه مع ذلك الهم و أرشد الشباب الى قبلة التأسيسي التي حجت اليها النخب طوعا أو كرها آنذاك وقد وجدوا فيها ضالتهم التي خلصتهم من برلمان جثم على قلوبهم وزور ارادتهم …

ظل الشاهد في الحزب وهو الذي كان يستقبل يوميا عشرات الإطارات الناعمة التي جاءت الى السياسة وقد غدت جولة ممتعة استعد لها البعض برساميل مختلفة : مال و وجاهة وخبرة و كان الشاهد يمتلك كلها : شاب متعلم حائز على شهادة الدكتوراه ، متخرج من فرنسا ينحدر من وسط بورجوازي مديني .انطلق الشاب يوسف الشاهد من استمرارية تاريخية مطمئنة لم تدرك حجم الرجة التي وقعت….

لم يجد الشاب الطموح في الحزب الجمهوري ما كان ينتظر منه خصوصا بعد الخسارة المدوية التي مني بها في انتخابات 2011 …. حاسة الشم التي أخطأت هذه المرة تعلمت بسرعة فأدبر الى حزب جديد و كانت محطته حزب النداء الذي رفعه الى عليين … حتى ادرك وسادة الحكم … و ترأس الحكومة. ذات 2017..

لم يكن أحد يتوقع أن يقطع يوسف الشاهد تلك المسافة بسرعة فائقة و يبدو أن اختيار السيد الباجي قائد السبسي له رئيسا للحكومة فيما بعد قد فاجأ الجميع و يذكر العديد ممن حضر مفاوضات وثيقة قرطاج الأولى ان الراحل طلب من الفرقاء الاتفاق على شخص واحد و منحهم مهلة ب 24 ساعة غير انه و لما التقاهم في الموعد تأكد لديه ما كان يتوقعه فهو يعلم مسبقا أنهم لن يقدروا على ذلك فرمى لهم بعصاه فأذا هي يوسف الشاهد …

كان ترشيح المرحوم الباجي قائد السبسي شبه مجازفة وربما استند الى توصيات عائلية تحسن الظن به و يذكر الشاهد ذاته في احدى المقابلات التلفزية أن المرحوم الباجي كان قد التقاه فيما يشبه الاختبار و الأرجح أن الرئيس لم يكن يعرفه معرفة دقيقة بالمعنى السياسي للكلمة فالرجلان ينتميان الى جيلين و سجلين مختلفين بينهم سنوات ضوئية …و لكن حسن الظن به و البحث عن شاب من الدوائر العائلية كانت عوامل حاسمة في ذلك الاختيار…

ومع ذلك فالطريق لم يكن مكللا بالزهور بل كان معبدا بالنزاعات التي لغمت عليه جل المسالك …تزامنت رئاسة يوسف الشاهد مع تفجر الخلافات داخل حزب النداء بشكل لم تعد فيه تحت السيطرة خصوصا وأن الرئيس لاذ بصمت و آثر، خشية ان يتم التجاسر عليه " وتمرميده"، ان يلوذ بالصمت في الكثير من المواقع . حاول يوسف الشاهد ان يستفيد من تلك الخلافات و ان ينأى بنفسه عن الصرعات قدر الإمكان خشية أن يدفع باكرا ثمن تخندقه باهضا ..منحازا ضمنيا الى العائلة فحاز عل شرف تعيينه حكما ضمن لجنة 13 التي ترأسها ( ديسمبر 2015)….

ومع ذلك لم يصمد طويلا في محراب الحكمة و سرعان ما اشتغل لحسابه الخاص حريصا على ان يجني محاصيل الخلافات تلك و تجييرها الى رصيده وقد أدرك أخيرا ان السياسة الحقيقية كانت تدار خارج أروقة القصبة و دخل لعبة السراديب المعقدة و المظلمة ( رجال الاعمال ، لبيات الضغط ، المتنفذين من اسواط الاعلام ، بعض اركان الدولة العميقة ) .. و كانت تلك بداية الأخطاء القاتلة التي سيدفع ثمنها لاحقا وكانت آخر دفعة مؤلمة تلك التي دفعها يوم 15 سبتمبر 2019

لم يعاقب يوسف الشاهد في اعتقادي لمجرد آدءاه السياسي خلال الحكم و لا أيضا للركود الاقتصادي وسوء أحوال المعاش و لكن اعتقد أن ترتيبه الخامس و تلك النسبة من الأصوات التي تجاور فيها مع الصافي السعيد المرشح المستقل، كانت عقابا بليغا له. وحتى نفهم هذا العقاب القاسي علينا أن نعود الى الأشهر الأخيرة التي كانت في اعتقادي حاسمة دون اغفال تلك العوامل التي شكلت خلفية لما حدث و محددا حاسما في تكثيف مختلف المشاعر و المواقف المناهضة له ومن تلك المسائل التي وجهت الاعراض عنه:

- الصراع الذي خاضه يوسف الشاهد مع الباجي قائد السبسي الذي لم يستوعبه الكثير من الناخبين و الذي بدا فيه و كأنه " الابن العاق لابيه" الذي لم يعترف بجميل من منحه فرصة المجد و قد ترسخت هذه الصورة اثر موت الباجي قائد السبسي التي ظلت روحه تحوم هنا و هناك . فهم البعض دموع يوسف الشاهد أثناء مراسم التأبين لا على اعتبارها دموع رحمة بل دموع الندم و الشعور بالذنب و الاثم. كانت ميتة الباجي رحمه الله قد ساهمت في خسارته.

- الرئاسة التي أذلها ، الرئاسة التي يلهث وراءها : لم يستوعب الكثير من الناخبين كيف أن رئيس الحكومة الذي خاض صراعا مريرا مع الباجي قائد السبسي ( مؤسسة الرئاسة التي أعادها الى حجمها الضئيل عندما تبين له انحراف الباجي الرئاسوي و انحيازه الى ابنه تحديدا ) حتى يوقف الانحراف الرئاسوي الجارف ، يحرص في النهاية على الظفر بها.. بدا للعديد أن طموح الشاهد الذي لا حد له و النهم على المناصب العليا قد دفعاه الى افتراس ما حوله من رجال و مؤسسات اشباعا لغروره لاغير .

- اقالة وزراء لم تخل من إهانة: حطم السيد يوسف الشاهد رقما قياسيا في اقالة الوزراء : ناجي جلول، لمياء الزريبي،نسلمى اللومي ، ، عبيد البريكي، خالد بن قدور ، مادولين الشارني ، مبروك كورشيد الخ فضلا عن عدد من الاستقالات الأخرى التي اضطر اليها البعض من وزرائه وهو أول رئيس حكومة يواجه في انتخابات عددا مرتفعا من وزراء، كانوا أعضاء في حكومته، منافسين الداء له. لا نريد أن نقيم ان كانت إخفاقات وزرائه تستحق تلك الاقلات أم لا و لكن المؤكد ان تلك الاقالات كانت فاقدة أحيانا للياقة الواجبة بروتوكوليا: التضحية بناجي جلول ليلة عيد الشغل سنة 2018 فضلا عن تصريحات عبيد البركي التي أكدت باندفاع الشاهد و رغبته في اقالته بشكل مهين …. بدا للكثير من خصومه أن الرجل " آكل بشر" بالمعنى السياسي و لذلك اصطفوا ضده و واجهوه .

- بين حروبه النبيلة و تصفيات حساباته مع خصوصه : يذكر الناس أن يوسف الشاهد كان قد بنى جزءا من مشروعيته التي بدأت تتأكل بعد سنة من الحكم على مكافحة الفاسد و هو بهذه المعركة أراد في حقيقة الأمر أن يضرب عصفورين بحجر واحد أي سحب بساط هذا المعركة أولا من تحت اقدام سامية عبو و التيار الديموقراطي عموما الذي تنتمي اليه حتى لا تكون هذه المعركة حكرا عليه وسجل تجاري له لا يشاركه فيه أحد وثانيا التخلص من " فاسدين" انحازوا الى خصومه السياسيين و اختار أن يرمي شبكته في ضربة" معلمية" في ذلك البحر الأهوج فاصطاد شفيق جراية و بعض رجال أعمال من مهربين تحديدا.

لم تكن الملفات القانونية معدة بشكل جيد وقد تكون رافقتها عدة تجاوزات وخروقات مست بحقوق المتهمين تورطت فيها بعض أجهزة الدولة. و توقفت الحرب عند هؤلاء بشكل بدا و كأنها انتقائية و لعل تسريح البعض منهم لاحقا قبيل الانتخابات لم يزد إلا ترسيخا لتلك الشبهات التي تحوم حول استعمال الشاهد القضاء و غيره من أجهزة الدولة في تصفية حساباته و قد تدعمت بشكل سافر اثر ايداع نبيل القروي "رجل الاعمال"وصاحب قناة نسمة التلفزية و رئيس حزب قلب تونس السجن وهي شبهات دعمتها تصريحات سليم الرياحي لاحقا وقد عمقت من تلك المخاوف التي لم يتصدى لها الشاهد و يبددها الثناء حملته الانتخابية حتى يطمئن الناخبين.

- حزب تحيا تونس : من حزب قاطرة الى عبء ثقيل: لم يكن حزب تحيا تونس مشروعا سياسيا حقيقيا .

لقد تناسل من نداء تونس فحمل جل أمراضه : حزب "انتخابي" فاقد لمشروع سياسي عميق يمنح به بديلا للناس و يتمايز به أيضا عن غيره من الأحزاب التي تشابهت على التونسيين … كان الحزب خليطا هجينا من الطامحين و الطامعين و الفارين و اللائذين من مختلف اشكال المتابعة و الرحاب … على أمل ان يفوز …. في المحطات الاختبارية الأولى التي تجسدت في الانتخابات البلدية المعادة تبين ان النتيحة مخيبة و ان التراب ، الأرض لم تعدا ملكا له و ان الماكينة التي تصارع عليها مع خصمه ابيه اللدود لم تعد قادرة على الحركة بل هي تصارع من أجل البقاء …. كان ميلاد الحزب متأخرا و متعسفا ، " السبوعي السياسي" ، الخديج" سرعان ما انهار ولم يقدر على رفع ابنه الشاهد الى أعلى …

هذه الصورة التي انطبعت لدى فئات واسعة من الناخبين خصوصا و ان الرخاء الاقتصادي الكفيل بتنسيب الصورة أو تفتيتها ظل شحيحا و لذلك عزفوا عنه الناخبين . اخفق يوسف الشاهد في ان يرسمل توليه رئاسة الحكومة و ظل رغم الجهد المبذول في الحملة لانتخابية و أدائه الجيد مغامرا سياسيا … بلدوزار "لا يتوقف اذا عمر" إلا اذا خلا ما حوله …

يوسف الشاهد ولد سياسيا بسرعة و قد يختفي بسرعة … انه النيزك الذي سرعان ما احترق … في انتظار ميلاد نيزك آخر ولو على هيئة بعث جديد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات