حراك شعب المواطنين بين الحتميّة وعدم الإمكان

Photo

المشهد السياسي التونسي اليوم:

يتسّم المشهد السياسي التونسي اليوم بما يلي:

1- العودة الشاملة للمنظومة القديمة إلى مقاليد الحكم والتسيير على كلّ المستويات.. عودة يسّرها:

أ‌- التحالف بين ماكينة التجمع وجزء من اليسار (الجزء الانتهازي وهو الأكبر) برعاية رأس المال الفاسد وبتغطية إعلامية وثقافية مكثفة وبدعم النقابات وبتفاني الإدارة وبتآمر قطاعات من الأجهزة الأمنية..

ب‌- الأداء المتردّد للترويكا، حيث قادت هذه الأخيرة مرحلة ثوريّة ولكن بروح "إصلاحية" موغلة في البحث عن "التوافق" مع أركان دولة الفساد والإستبداد..

ت‌- تآكل وهشاشة ما يصطلح على تسميته بقوى الثورة، التي غلبت عليها الطفولية وانعدام الرؤية الاستراتيجية لدى شباب الثورة من ناحية، وتضخم الأنا والنرجسيّة لدى النّخب من ناحية أخرى. ناهيك عمّا أصاب الأحزاب من أمراض الشيخوخة قبل الأوان ممّا جعلها عرضة للإختراق والتفكّك والتناحر على المراكز القيادية فيها والتدافع لترؤس القوائم الانتخابية: الكلّ يعلم اليوم بديهة بأن تلك الأحزاب لو دخلت معركة الانتخابات التشريعية مجتمعة لحصلت بما نالت من أصوات أضعاف ما نالته من مقاعد داخل البرلمان..

2- الغياب التام لمعارضة جديرة بهذا الاسم، حيث اندثرتْ أو تكاد تلك الأحزاب التقليدية "الكبرى" كالجمهوري والتكتّل بفعل اهتراء زعامتيهما نتيجة ممارسة الحكم أو المعارضة بطريقة رديئة خلال الثلاث السنوات الأولى للثورة، وبفعل هشاشة البناء الداخلي لأحزابٍ انتقل عدد منخرطيها من بضعة مئات قبل الثورة إلى عدّة آلاف بعدها، فاختلط الحابل فيها بالنابل وغلب الكمّ فيها الكيف.. وباتت ضحية "لنجاحها" الموهوم..

وانكفأت الجبهة الشعبية على نفسها بعد تحالفها مع قوى الثورة المضادّة قبل وأثناء وبعد "اعتصام باردو"..

أمّا عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتيار الديمقراطي وحركة وفاء وكذلك الأفراد المستقيلين من هذه التشكيلات.. فقد خرج هذا الطيف منهكا من تجربة الحكم داخل الترويكا وأصابه أيضا ما أصاب التكتل والجمهوري من التضخم العددي المفاجئ بعد الثورة حيث غلب الكمّ الكيف وبرزت بينها الصراعات والخلافات التي تعيق محاولات العمل المشترك..

كلّ هذه الأحزاب غرقت في تفاصيل التكتيك والصراعات الهامشية وقدّمت مصالحها الحزبية الضيقة بل ومصالح بعض أفرادها المستعجلين على الرؤى الاستراتيّجية.. فحجّمت نفسها بنفسها.. وباتت مجرّد هياكل شبه مفرغة..

أمّا حزب النهضة، أكبر الأحزاب على الإطلاق، بحكم الرصيد التاريخي والايديولوجيا والبناء التنظيمي المحكم، فلا يزال في مرحلة التحوّل "الدارويني" من حركة معارضة مناضلة سريّة التنظيم، اجتماعية الرؤية، ثورية المنزع، إلى حزب محافظ ليبرالي ينتمي إلى يمين الوسط، يعتمد في أحسن الحالات على رؤية إصلاحية توافقية قوامها المراوغة والتكتيك "الرصين الموزون".. المهمّ أنّ هذا الحزب أصبح الآن ركيزة من ركائز السلطة، وحليف مهمّ للمنظومة القديمة التي عادت إلى مقاليد الحكم تحتاجه هذه الأخيرة أكثر ممّا يحتاجها، وهي المهدّدة بالانقسامات الداخلية وبهشاشة رأسها بحكم سنّ رمزها المجمّع..

3- العجز الشامل والتام على الخروج بالبلاد من أزماتها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والأخلاقيّة، عجزٌ بدت ملامحه من خلال تشكيل الحكومة الذي استغرق عدّة أشهر حتّى تظهر للناس بدون روح وبلا برنامج واضح. مع التذكير بأنّ تشكيل الحكومة كان مناسبة لكي تنفجر الخلافات داخل الحزب الفائز بالإنتخابات، وكذلك مناسبة لإعادة خلط الأوراق وإعادة صياغة المشهد السياسي بعكس ما انتخب من أجله الناخبون..

4- حالة الإحباط العام التي أصابت الناس مباشرة بعد الإنتخابات التي علّق الجميع عليها أحلامهم وظنوا بأنّ ما سيأتي بعدها سيكون على أيّة حال فارق مع ما سبق.. فلقد كانت شعارات الجميع وآمالهم تدور حول الخروج من المرحلة الانتقالية أو المؤقّتة إلى المرحلة الدائمة والعادية.. ولكن مرّت الأسابيع وتتالت الأشهر ولم تظهر بوادر هذا التحوّل وذاك الاستقرار المنشود..

خلاصة الأمر أنّ الانتخابات الأخيرة أفرزت وضعا فريدا، بحيث لا النداء المنتصر استشعر طعم النصر، ولا النهضة المنهزمة ابتعدت نهائيا عن الحكم.. هذه سمات المشهد السياسي اليوم، والتي يمكن اختزالها في الفراغات التالية: اللاّحكم، اللاّمعارضة، اللاأمل.. المستفيد الأكبر من هذا الوضع، هو المنظومة القديمة المتشكّلة ممن ذكرنا آنفا: رأس المال الفاسد، مافيات التهريب والتهرّب، الأخطبوط الإداري السرطاني المعشش في كلّ مفاصل الدولة..

حتميّة الحراك كقوّة سياسيّة جديدة ومعارضة:

لا مفرّ من التذكير بأنّ الطبيعة لا تقبل الفراغ..من المتأكّد أنّ هذه المقولة جالت بخلد الدكتور المنصف المرزوقي وهو يخطب بُعَيْد الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسيّة من على شرفة مقرّ الحملة الانتخابية بمدينة أريانة متّجها بها إلى شعب المواطنين، مساء 23 ديسمبر 2014..

من المتأكّد أيضا أنّ حراكا ما كان قد تشكّل وتبلورت معالمه العامّة خلال الحملة الانتخابية نفسها.. "حراكا ما"، المسمّى دون الإسم.. بمفهوم "الكتلة التاريخيّة".. الحملة الانتخابية، لا سيما في مراحلها الأخيرة أفرزت وضعا جديدا، لم يحدث حتّى خلال أحداث ثورة 17 ديسمبر - 14 جانفي التي اختلطت فيها الأوراق وتشعبت فيها المسالك وتداخلت فيها الأطراف الفاعلة.. خلال أسابيع الحملة الانتخابية، عرف المشهد التونسي نوعا من "إعادة الانتشار" الطبيعي العفوي.. لم تعد الأوراق مختلطة ولا المسالك متشعّبة ولا الأطراف الفاعلة متداخلة.. ما حدث آنذاك هو نوع من الاصطفاف لكتلتين، الصراع بينهما من الحتميات التاريخية..

اصطفت حول المرشح المرزوقي بطريقة طبيعية عفوية فئات وأطياف مختلفة جمعتها قيم ومبادئ ومصالح وأحلام وتخوّفات مشتركة.. بمعزل عمّا قرّرته الجماعات والأحزاب والقيادات سواء في الجهر أو في العلن.. بالرغم من التزوير الممنهج والتلاعب الواضح بنتائج الانتخابات، وبالرغم من الأموال الطائلة التي ضخّت والحملات الاعلامية الضخمة التي جيّشت الناس طيلة أشهر ضدّ المرشّح المرزوقي، فقد حصل هذا الأخير على ما يناهز 1.4 مليون صوت.. ماذا حدث لكي يقفز هذا الأخير في بضعة أسابيع من 4 % من نوايا التصويت إلى 45 % من المصوّتين (بقطع النظر عن صحّة النتائج ونزاهة العملية برمّتها)؟ ماذا حدث لكي يحصد المرزوقي عشرون مرّة أضعاف ما حصده حزبه في الانتخابات التشريعية؟ ذاك هو الحراك الذي حدث داخل الكتلة التاريخية.

حراك شعب المواطنين كما انتظره الناس:

لا يمكن فهم فكرة حراك شعب المواطنين من غير الرجوع إلى لحظة وظروف ولادتها.. كان ذلك خلال خطاب الشرفة، مساء 23 ديسمبر 2014.. هكذا تحدّث الدكتور المرزوقي:

"أينما أذهب أشعر بهذه الطاقة.. هذه الطاقة هي التي يجب أن لا تضيع.. هذا أهمّ شيء غنمناه من هذه الانتخابات.. هو هذا الوعي الجماعي بقوّة الشعب.. الوعي بأنّه قادر على أن يفرض على كلّ من يقف أمامه.. أن يفرض عليه حقوقه وحرّياته.. هذه الطاقة هي التي يجب أن لا تضيع.. لذلك أعلن أننا نطلق في هذه اللحظة من هذا المكان حركة شعب المواطنين.. ثمّ دعا المرزوقي الأفراد والقوى السياسية من مختلف الأطياف إلى "الالتحاق بحركة شعب المواطنين.. "أطلب منكم أن تنتظموا في أكبر حركة سياسيّة مهمّتها أن تقود المستقبل في تونس وسأكون معكم في كلّ لحظة وفي كلّ مكان".. "يا إخواني.. يا أخواتي.. نحن في مفترق طرق من جديد.. ضروري تشكيل هذا الحراك.. ضرورة تشكيل حراك شعب المواطنين.. لمنع عودة الاستبداد (...) على حراك شعب المواطنين أن يتشكّل الآن كقوّة سياسيّة رادعة (...) تحيا الثورة.. تحيا الديمقراطية.. تحيا تونس".. انتهى الخطاب..

لا يمكن بأيّة حال أن يكون المرشّح المرزوقي قد استبعد تماما فكرة الهزيمة الانتخابيّة.. ولا يمكن يكون خطابه هذا ارتجالا أوحته إليه ردّة الفعل الغاضبة عن هذه النتيجة.. لقد كان شعار الحملة الانتخابيّة منذ البدء يحتمل النتيجتين: "ننتصر أو ننتصر".. ننتصر الثانية هي الانطلاق بزخم الحملة نحو تأسيس حركة سياسية معارضة يكون المرزوقي زعيمها الطبيعي.. هذا ما فهمناه وما فهمه الناس.. هذا ما انتظرناه وما انتظره الناس..

أين هو الحراك اليوم؟ أين هي تلك "القوّة السياسيّة الرادعة" التي بشّر بها المرزوقي، والتي تستمدّ شرعيتها وعنفوانها من زخم الحملة الانتخابيّة، وكذلك ممّا وسم المشهد السياسي التونسي اليوم من انتظارات لبديل تحمله روح جديدة؟

ككلّ المشاريع الضخمة، الفارقة حين تشكّلها، يخضع مشروع حراك شعب المواطنين اليوم إلى صراع عنيف بين الرغبة في الصعود والتحليق، وبين الجذب إلى الأسفل.. إلى ما عليه المشهد السياسي التونسي من بؤس وهوان..

الجواب آت لا محالة..

فإمّا الظهور من الباب الكبير.. باب القيم والملاحم والأمل والمواعيد مع التاريخ..

وإمّا الخروج المنتكس الخجول من "خوخة" البؤس المعتاد..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات