الثورة التونسية الملهمة

Photo

تكتمل غداً ثماني سنوات على ذكرى انتصار الثورة التونسية. هرب الرئيس بن علي عشية يوم 14 جانفي (يناير) 2011، فتخلص الشعب التونسي من نظامٍ جثم على صدره أكثر من 24 عاماً، وكان الرجل منهمكا في ترتيبات انتخاباتٍ، ضمن معارك توريث داخل إمبراطورية العائلة والأصهار. عبث بالدستور وأجاز لنفسه ما لا تجيزه أعتى إمبراطوريات القرون الوسطى.

عمل بن علي ألف حسابٍ للمعارضة الضعيفة والمشتتة لأجهزة الأمن والجيش للمحيط الدولي، ولكنه أغفل معطىً وحيدا: إرادة الشعوب التي لا تقهر. يبدو أن شبه أميته وتكوينه الأمني منعاه من معرفة أن بلده قد أنجب شاعرا فذا اسمه أبو القاسم الشابي الذي تغنى بإرادة الشعب: إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر... والغريب أن النشيد الوطني الذي يردّده الرئيس في مناسبات عديدة يتضمن هذا البيت الخالد.

مضت على اندلاع الثورة التونسية وسقوط نظام بن علي ثماني سنوات، وأطلقت شرارة ثورات أخرى في محيطها العربي، لكنها ظلت وحيدة، بعد أن خبت أخواتها في أثناء هذه المدة، المصرية والليبية واليمنية والسورية، واحتجاجات عديدة أخرى، الجزائر والمغرب والأردن، مثلا. وارتدت تلك الثورات على جدار الاحتراب الداخلي والطائفية والإرهاب، ونشبت حروبٌ أهلية، وشاع استبداد أكثر شراسة وبشاعة من بطش استبداد الأنظمة التي أسقطتها تلك الثورات.

ظل هذا الاستثناء وحيدا صامدا، على الرغم من إخفاقاتٍ عديدةٍ ارتكبتها النخب التي حكمت البلاد خلال هذا الانتقال الديمقراطي المرتبك والصعب. ولكن، على الرغم من تحرّش مناخٍ إقليمي متبرّم بالثورة تلك، حافظت تونس على استثنائها في الحد الأدنى: دستور تقدّمي، دولة مدنية، تداول سلمي على السلطة وسماء كاملة من الحرية. ولا أحد ينكر هذا، ولعل تصنيفات مؤشرات الديمقراطية، والتي أصدرتها في نهاية السنة المنقضية، منظمات دولية مرموقة، تجعل تونس الديمقراطية الوحيدة تقريبا في الوطن العربي.

وهذا استثناء لن يلقى الترحاب، فبيئتنا العربية طاردة القيم التي نادت بها الثورة التونسية، الحرية والحقوق والكرامة ومكافحة الفساد مثلا. وقد حدث في أكثر من بلد عربي أن استلهمت شعوبها من تلك الشعارات قوادح لاحتجاجات سلمية، تطالب الأنظمة بإصلاحات عميقة، حتى تدرك تلك القيم. واستندت تلك الاحتجاجات إلى مشاعر تعاطف كثيرة مع مطالب الثورة التونسية، واستلهامها.

كانت الثورة التونسية ثورة "الغلابة"، أي ثورة طيفٍ واسعٍ من المهمّشين والمحرومين والغاضبين على منوال تنمية مجحف، لكنهم كانوا، وهم ينتفضون، لا قائد لهم، ولا بيان الرقم واحد قرأوه على أنصارهم وشيعهم، بعد أن يتسلّلوا فجرا إلى مقرّي الإذاعة والتلفزيون. ثورة لم تصنع قادةً، ولم تصنع أيديولوجيا، وتلك نقطة ضعفها وقوتها في آن. وخلو الثورة التونسية من زعيم وأيديولوجيا هو ما منحها جاذبيةً خارقة، لأنه ليس لها قادة، ولا عقيدة تغدو كتبا للحفظ في المقرّرات المدرسية.

لا أحد يخجل في عالمنا العربي حين يعترف بأنه متعاطف مع هذه الثورة، حتى يتهم بالعمالة، أو بالمبايعة لأحد فيها، ذلك أن "زعيمها" الذي قدح شرارتها احترق، ولم يوص بأن يكون له وريث. بل لم يتكلم قبل ميتته، وإلا غدت كلماته أحاديث مقدسة. ومع ذلك، حظيت الثورة التونسية ببحور من التعاطف، حتى وهي تتراجع تحت جبال الإرهاب والخيبات التي سعت إلى إطفاء شعلتها.

لا توجد وصفات للثورات، حتى تقدم لهذه الشعوب، ولا الثورة التونسية توهمت أنها ستقود ثوراتٍ أخرى، أو تصدّر قيمها. ولكن للحرية جاذبية لا تقاوم، والثورة التونسية نداء الحرية. يتوهم من يعتقد أنها قوسان أغلقا في تاريخ المنطقة، وأن روحها المحاصرة خبت وانطفأت. ستظل ذاكرة الأجيال العربية تستحضر ذلك الوهج الذي أطلقته تطلعات الناس وأمانيهم وإرادتهم. وها نحن نرى كيف أن الشعب السوداني يردّد المفردات نفسها التي رفعتها الجماهير الثائرة في تونس، وأينما مرت، سواء في ليبيا أو مصر أو غيرها "الشعب يريد إسقاط النظام"، هذا الشعار الذي ترتعد له العروش، وتهتز على وقع أصنام الاستبداد.

من المصادفات الجميلة أن تندلع احتجاجات السودان في الذكرى الثامنة للثورة التونسية. وستندلع مثلها في أكثر من بلد عربي. وهذه ليس نبوءة، بل توقع منطقي لما ستكون عليه إرادة الشعوب في عالمٍ غدت فيه للمثل الديمقراطية جاذبية خاصة. سيبدو القرن الحادي والعشرون قرن تعميم الديمقراطية. وعلى الرغم من كل هذا الدمار الذي عصف بأحلام الثورات العربية، فإن الشعوب العربية ستواصل البحث عن مسالك تحرّرها.

الثورات كالموج الهادر، حين ترتطم بالصخر ولا تجتثه لا تنهزم، تتراجع وتعيد الكرّة ولو بعد حين. أحلام الثوار مثل ملح البحر، يذيب بإصراره رخام الاستبداد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات