الثورة بين الجُملة والتفصيل

Photo

من معارك الثورة الخاطئة.. معركة التفاصيل

هناك مثل فرنسي مفاده أنّ "الشيطان يختبئ في التفاصيل".. طيب! هذا يعني أنّ التفاصيل مهمّة ولا يمكن أن نتغاضى عنها، باسم المثالية وباسم الرؤى الشاملة البعيدة الكبرى وباسم المسافات النقدية والموضوعيات جميعها من أكاديميّة إلى حقوقية إلى اقتصادية مالية ديبلوماسيّة..

ولكن هل تعني هذه المسلّمة، أن نترك مجملات الأمور وشمولياتها وعناوينها الكبرى جانبا، ونهتمّ بالتفاصيل.. نهتمّ بها إلى حدّ الإغراق.. نهتمّ بها إلى درجة تنسينا أنّها أجزاء من كلّ.. وأنها مترابطة فيما بينها..

إنها مسألة منهج.. ففي تعاملها مع أعدائها تسعى الثورة المضادّة دوما إلى تفتيت نفسها وتجزئتها بإشعال أكثر ما يمكن من بؤر التوتّر الصغيرة هنا وهناك، هدفها في ذلك فتح شروخ وتصدّعات وتفتيت وتجزئة كتلة الثورة التي شكّلتها تلك "اللحظة التاريخية" التي "هرمنا" في انتظار ظهورها..

هل تذكرون توحّد الشعب وصفاء روحه خلال الأيام الأولى للثورة؟ أيام "الشعب يريد إسقاط النظام".. أيام "تونس، تونس، حرّة، حرّة.. والتجمع على برّة".. أيام "لاخوف لا رعب السلطة ملك الشعب

ولكن هل تذكرون أيضا أنّ من أُولى "القضايا" التي طُرحتْ منذ الأيام الأولى للثورة، "مسألة غلق المواخير"؟ هل تذكرون كلّ التفاصيل التي تتالت في تلك المرحلة الحاسمة؟ هل تذكرون مظاهرة الدفاع عن اللائكية (20 جانفي 2011!)، وشريط نادية الفاني وشريط نسمة "بيرسيبوليس"، وحوادث "النقاب" و"العلم" و"غزوة المنقالة" و"أمينة فيمن"؟ هل تذكرون مطالب القصبة 2 من "مجلس تأسيسي" و"نظام برلماني" وإسقاط حكومة الغنوشي وصعود السبسي؟ هل تذكرون تتدافع الساسة ممن كانوا يستجدون عذريّة أو شرعية ثورية على عتبات القصبة 2 في النهار، وكانوا بالليل يتآمرون على الثورة، ويرسمون مسارها الذي تعلمون؟ هل تذكرون كيف حلّ القضاء "العادل" التجمع؟ أَوَلَم يقع حلّه بالفعل من قبل أبناء الشعب قبل أن يرفع بعض المحامين لأسباب يعلمها الله قضيّة في الشأن، فرفعوا بذلك حرج الانتماء السابق، وعاد المعنيون بالأمر من كلّ النوافذ والأبواب؟ هل تذكرون من كانوا يسوّقون للدور "الثوري" للجيش؟ وكذلك من كانوا يسوّقون إلى مقولة "ثورة الشباب".. وتلك كلمات حقّ أُريد بها باطل.. فاستعمال كلمة شباب آنذاك كانت تعني القطع مع الوعي ومع التاريخ أساسيْ الثورة الكبيران.. ولا يزال البعض، إلى الآن يرفع رايات "التشبيب" وكذلك "التأنيث" كلّما دعتْ الحاجة إلى ضرب المشروع الثوري..

لقد أغرقت الثورة المضادة الثورة.. أغرقتها في متاهات التفاصيل، والحال أنّ المنظومة القديمة كلٌّ مترابط متماسك لا يجوز التعامل معه بغير القصف المركّز بالمدفعيّة الثقيلة.. تلك هي القطيعة لا غير.. وبدونها لا تأسيس ولا يحزنون.. ألا ترون ما حدث للترويكا حين سقطتْ في مستنقع التفاصيل؟

لماذا الحديث في هذا الشأن اليوم؟ ما دفعني إلى ذلك، هو ما ألاحظه لدى بعض الأصدقاء الثوريين من انغماس جديد في مستنقع التفاصيل.. تفاصيل رحلات محسن مرزوق.. وتفاصيل ترهات الطيب البكوش.. وتفاصيل أفراح النداء ومسراته.. وتفاصيل تكتيكات الشيخ.. وتفاصيل الكاميرا الخفية مع ممثّل تافه.. وتفاصيل ناجي جلول ونسب نجاحه.. وتفاصيل حكايات معزّ بن غربية وسمير الوافي.. وتفاصيل الحملات المختلفة.. تفاصيل تطفو على السطح ثمّ تختفي بقدرة قادر..

التفاصيل بطبعها لا تنتهي.. ومنها تفاصيل الحياة.. ولو وقفنا عندها، لأفنينا العمر في اللهث ورائها بلا جدوى..

كيف نبني آلة القطيعة والتأسيس بمنأى عن التفاصيل وبمنأى عن تحويل الوجهة بكلمات الحق التي يراد بها الباطل؟

هذا هو السؤال!

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات