متى تبدأ عملية البناء؟

Photo

قد تعني الثورة كمصطلح سياسي: الخروج عن الوضع الراهن وتغييره سواء إلى وضع أفضل أو إلى وضع أسوأ باندفاع يحركه عدم الرضا والتطلّع نحو الأفضل. وقد عرّف الفيلسوف الإغريقي أرسطو شكلين من الثورات وهي التغيير الكامل من دستور إلى آخر، أو التعديل على دستور موجود. وقد نجتهد في تعريف الثورة التونسية ونقول إنها فعل شعبي عفوي تلقائي غير منظم، قادحه المباشر حركة احتجاجية للبوعزيزي. فقد كان انتحار البوعزيزي حرقا أمام مقرّ ممثّل السلطة السياسية في سيدي بوزيد دلالات عديدة وأهمّها تحميل النظام القائم مسؤولية "الانتحار حرقا" باعتبارها حركة احتجاجية تُعبّر عن الشعور باللاّعدالة واللاّكرامة.

وإن لم يكن الفعل القادح للثورة (الانتحار حرقا) يهدف إلى إحداث تغيير جذري شامل في بنية النظام السائد في المجتمع، غير أنّ انفجار الاحتجاج الشعبي ضدّ التعامل الأمني مع المسيرات والتظاهرات التي صاحبت الحركة الاحتجاجية اليائسة للبوعزيزي حوّل وجهة التحرّكات نحو المواجهات المباشرة بين النظام (الذي استعمل القمع) والجماهير التي أخذت أعدادها تتزايد يوما بعد يوم بشكل تصاعدي سريع. لتصل أوجّها في الأسبوع الثاني من شهر جانفي 2011، حيث انضمت منظّمات عمالية ومهنية إلى صفوف المحتجّين من مختلف الفئات الاجتماعية المهمّشة. (خاصة المظاهرة التي نظمها الإتحاد العام التونسي للشغل بولاية صفاقس والتي بلغت المائة ألف).

بدأت معالم الانقلاب على الثورة من طرف "النخبة السياسية التقليدية" منذ اقتراح الرئيس المخلوع لهيئة الإصلاح السياسي التي تحوّلت فيما بعد إلى "الهيأة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والإنتقال الديمقراطي" أو ما يُطلقون عليها هيأة بن عاشور. وبدأ تنفيذ الانقلاب عمليا ليلة 15 جانفي 2011 بتعيين فؤاد المبزّع رئيسا للدولة والإبقاء على محمد الغنوشي رئيسا للحكومة.

انتبه أصحاب الثورة الحقيقييون، من شباب المناطق الداخلية التي شهدت ولادة الثورة تلاعب "سياسيو العاصمة" ومحاولاتهم للهيمنة على وُجهة الحراك والاستحواذ على مؤسّسات الدولة. فقاموا بتنظيم مسيرات نحو ساحة القصبة وانطلق اعتصام القصبة 1 يوم 23 جانفي 2011. ومنذ تلك اللحظة تحوّلت المعركة من احتجاج شعبي مطالبه الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية إلى معركة بين أصحاب الثورة الحقيقيون من شباب المناطق المهمّشة أي "قطب التغيير" من جهة، و"النخب السياسية التقليدية" أي قطب "الإصلاح" الذين باتت أهدافهم بائنة للعين المجرّدة وهي الاستحواذ على الثورة ووأد أي توجّه حقيقي نحو التغيير الجذري من جهة ثانية.

تتالت الأحداث وتتابعت الحكومات وأخذت معارك الاستقطاب أشكالا مُختلفة، وبدا المحور الرئيسي للتنافس بين الفاعلين السياسيين هو أحقية التكلّم باسم الثورة وترجمة أهدافها ورهاناتها والدفاع عن استحقاقاتها، وشيئا فشيئا تبيّن للجميع أنّ خلف الخطاب السياسي "الثوري" يختفي صراعا حول السلطة وتنازعا حول مشروعية الهيمنة على توجيه المشهد السياسي من أجل الاستيلاء على مواقع القرار واحتكار الامتيازات المادية والرمزية التي تعوّدت "نخبة سياسية وفكرية قديمة" الاستئثار بها واستعمالها للمُقايضة والابتزاز.

بدا الصراع في الوهلة الأولى، استقطابا بين أحزاب سياسية ذات أيديولوجيات مُتباينة، حيث وقع توظيف المُقدّسات في المعركة، فاستُعمل الدين والعلم والولاء للوطن والشرف والتطبيع مع الكيان الصهيوني...الخ. من أجل تدنيس هذا الطرف أو إضفاء صبغة القداسة على طرف آخر. لكن اكتشفنا شيئا فشيئا، وخاصة مع ارتفاع وتيرة الإرهاب وتشتّت القوى الموالية للثورة وتساقط رموزها، وجود قوى إقليمية ودولية تُحرّك المشهد برمّته. فهي توظّف جميع القوى (ثورية أو إصلاحية أو محافظة) لتفعيل هيمنتها على المشهد، ومن الطبيعي أن تعمل على تفكيك عناصر المشهد وتفتيته حتى تعجز أي قوّة خارجة على سيطرتها من إعادة هيكلة المشهد وبناءه (ما حدث مع هيئة الحقيقة والكرامة).

ولعلّ هذا ما عايناه خلال الإنتخابات الرئاسية الأخيرة حيث تجاوز عدد المترشّحين للدورة الأولى السبعين مُترشّحا تمّ قبول 27 ملفّا، وداخل العائلة السياسية الواحدة ترشّح أكثر من أربع أو خمس مُترشّحين (بن جعفر والشابي والمرزوقي ومحمد الحامدي وعبد الرزاق الكيلاني والصافي سعيد وحمودة بن سلامة...) و(حمه الهمامي وكلثوم كنو) و(الفريخة والهاشمي الحامدي وعبد الرؤوف العيادي ...) و (كمال مرجان وعبد الرحيم الزواري والباجي قائد السبسي ومصطفى كمال النابلي ومنذر الزنايدي..).

وارتفعت وتيرة التفتيت بعد إعلان الرئيس السابق محمد المنصف المرزوقي على تشكّل حراك شعب المواطنين، حيث انطلقت إرادات مُتنافسة داخل الحراك وخارجه نحو تشتيت الانتباه وبعثرة الأوراق وتكريس المزيد من التفتّت والتفكيك حتى تُصبح مهمّة توحيد الحراكيين داخل جسم واحد مهمّة تكاد تكون مستحيلة. وانخرط الحراكيون عن وعي أ و دون وعي في فعل التفتيت باختلاقهم لقضايا وهمية وصراعات جانبية لم تزد إلاّ من إضعاف قوى الثورة وتقوية القوى المضادة لها.

والأكيد أنّ بقية الأحزاب والتيّارات السياسية ليست بمنأى عن استراتيجيات التفتيت، وما شهده حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب نداء تونس وبدرجة أقلّ حزب حركة النهضة وبقية الأحزاب والتيارات الأخرى تؤكّد أنّ هناك مشروع مضاد للوطن يستعمل استراتيجية التفتيت من أجل الهيمنة على المشهد السياسي والسيطرة على ديناميكية التحوّلات.

أرى أنّ انطلاق لحظة البناء باتت رهينة وعينا بضرورة التوقّف عن فعل الهدم وعدم الانخراط في فعل التفتيت. وذلك أولا بترك الخلافات الهامشية والمُفتعلة والابتعاد عن الصراعات الشخصية حول مصالح مادية ومنافع رمزية. وثانيا البحث عن نقاط الالتقاء بين مُختلف عناصر الفعل الثوري من أجل بناء "المُشترك" أو الفضاء الذي تتوفّر بداخله المواصفات الجوهرية التي يتّسم بها "قطب التغيير" بيمينه ويساره ووسطه.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات