جمهورية الخوف، هذا هو العنوان الذي فرضوا علينا الإقامة الجبرية فيه…

إنني أكتب الآن بأصابع مرتجفة، وقلم مذعور ـــــ هذا القلم الذي حملته مجاهدا في سبيل الحق والحرية، والذي شق على امتداد خمسين سنة عصور الرداءة والإرهاب والفساد بشجاعة، أخاله اليوم مترددا أمام هول الإبادة الجماعية للأقلام الحرة والرجال الأحرار…

لأول مرة أشعر أن رقيبا ما يجلس على رأس صفحتي، شاهرا ممحاة من معدن الخوف، مهددا أفكاري المنسابة كدمع المغلوبين على أمرهم، مستبدلا كلمات حارة مثل الغضب والاحتجاج والرفض والإدانة والجريمة، بكلمات أقل جودة وتعبيرا عن حقيقة ما نعيشه ونواجهه…

إنني أتساءل بحيرة : من أين يجيء كل هذا الخوف، ولماذا توزع بضاعة الترويع بالمجان على المواطنين في زمن الغلاء الفاحش لبضائع العيش الكريم.. وكيف يتم تجفيف منابع العقل والحكمة، ويُسقى العنف والأذى بماء السلطة المطلقة؟..

أين ذهبت تلك الكلمات المتفق عليها جماعيا ودستوريا، مثل الأمن، والحريات، والعدالة، وحقوق الإنسان، وسيادة وكرامة المواطن… ومن تحايل على مادة الحياة في هذا البلد وحولها إلى بؤس جماعي يدفع الناس للخوف على حياتهم، والبحث عن طرق نجاة أخطر _ ربما _ من بقائهم في ظل الخوف الدائم على حياتهم… إن اللغة تأبى أن تسمي هذا البلاء…

لقد أصبحت عبارة « النجاة بالنفس » هي برنامج المواطن، ومركز تفكيره وعمله وسقف طموحه، لا يحلم بأكثر من العودة إلى بيته سالما بنفسه من مظالم يومه، محطما نفسيا وعقليا، مستقيلا من كل ما يحفزه على الإيمان بالمستقبل، منطويا على ذاته ككل مغلوب على أمره. إن السكوت عن الحق في مثل هذا الوضع لم يعد رذيلة بل حكمة، والبحث عن الخلاص الفردي لم يعد أنانية بل تقوى للنجاة بالنفس… إن مثل هذا الخوف لم يعد مجرد خوف فردي، يمكن إغراقه في الوعود البراقة والمخدرات الصلبة، وإنما أصبح خوفا جماعيا شاملا.. أصبح خوفا وطنيا على الوطن في حد ذاته…

بالأمس تم الحكم على شاعر شاب بخمس سنوات سجن، هذا الشاب لم يهدد الأمن العام، ولا يملك سلاحا نوويا، وإنما قلما وموهبة وشجاعة، وقبله تم الحكم على المؤرخ بلغيث لإدلائه برأي قاله وكتبه عشرات المرات خلال ربع قرن دون أذى، وقبلهما وبعدهما تم الزج بإبراهيم لعلامي وعبد الوكيل بيلام وميرة مقناش وعلي معمري النقابي… ومئات من رجال ونساء هذا البلد في سجون أصبحت اشبه بالمحتشدات، لمجرد رأي أو نقد أو معارضة… للأسف أثبت التاريخ أن العنف والقهر ليسا أفضل وسيلة لحل المشاكل، بل يزيدان في تعقيدها وخطورتها…

إنني أنظر إلى بلدي بقلق وهو يخترع ديكتاتوريات جديدة في التاريخ السياسي، ديكتاتورية الأشخاص الأقل شأنا، حيث يستبد أولئك الجالسون بعنجهية فوق مقعد القانون، يوزعون السجن باستخفاف على مواطنين تهمتهم الإختلاف في الرأي، أو اختلاف في الرؤية، أو انتقاد لسياسة ليست دائما مقنعة… أولئك الفاسدون قانونا وإنسانية يظنون أن خدماتهم الشنيعة تلك ستجلب لهم رضا أسيادهم، وستساعدهم على الارتقاء والامتيازات، بينما يتجاهلون التاريخ الذي يترصدهم بقمامته التي لا ترحم…

ليس من عادتي إلقاء مواعظ ولا دروس، ولكن من خصال السياسة الحكيمة مواجهة الرأي بالرأي، والنقد بالحجة، والمعارضة بتصحيح ما تعترض عليه إن كان ذلك يخدم المصلحة العليا للدولة. ولنقل بصراحة، أن الأجدى والأصلح في المرحلة الحالية هو العفو الشامل على سجناء الرأي، وكل السجناء الذين طالهم الظلم وسوء تقدير العدالة، وفتح باب مصالحة وطنية شاملة، وإرساء قواعد حوار شامل ومسؤول مع كل الأطراف، ونشر ثقافة الأمان والحرية بين المواطنين، وتحرير الاعلام من قبضة الرقابة، وتحفيز المواطن على المساهمة الإيجابية في بناء وطنه ليس كواجب فحسب، وإنما كحق من حقوقه الإنسانية لاستثمار طاقاته في بناء وطنه…

نحن شعب عنيد كما يشهد التاريخ ولن يزيدنا التخويف والتهديد إلا تحدّ.. ولن يزيدنا الضغط إلا استعدادا للإنفجار…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات