المقدمة: حين تُشيّع الحقيقة مع الضحية
في زمن مشوّه، لم يعد المقتول يُدفن وحده، بل تُشيّع الحقيقة معه إلى مقبرة النسيان. لقد أصبح المشهد الإعلامي ساحة معركة تُغسل فيها أيادي الجلاد من دماء ضحاياه، ويُعلن براءته في نشرة الأخبار، بينما تُكتب على الضحية شهادة زور تنزع عنها البراءة والحق. لم نعد نرى الأحداث كما هي، بل كما يُراد لنا أن نراها عبر عدسة مُحكمة الإخراج.
إن هذه الظاهرة لا تقتصر على موت الإنسان فحسب، بل تمتد لتشمل موت القيم، وإلقاء الضمير في زاوية الشاشة حيث لا يراه أحد. السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: هل ما نراه هو الحقيقة فعلاً؟ أم أنها مجرد صورة محسوبة، صُمّمت بعناية لتخدير وعينا وإعادة تشكيل إدراكنا دون أن نشعر؟
1. سلطة الصورة: العدسة أقوى من البندقية
في عصرنا الحالي، لم تعد الحقيقة تُكتب، بل تُنتج. لقد تحوّل السؤال من "من القاتل؟" إلى "من الذي يتحكم في الكاميرا؟". إن قوة العدسة اليوم تفوق قوة البندقية، والمونتاج أصبح أشد قسوة من أي رصاصة.
بمجرد لمسة زر في غرفة الأخبار، يتحول المجرم إلى بطل، والمحتل إلى ضحية، والمقاوم إلى "وحشٍ منفلت من الجحيم". لا أحد يطالب بالقصة الكاملة؛ يكفي أن تظهر اللقطة "المناسبة" في التوقيت المناسب، حتى يُنسج حولها خطاب كامل يُشرعن القتل ويُجمّل الخراب.
يُصوَّر المعتدي وهو يبكي على خسائره، في مشهد يُطلق عليه "التعاطف المسروق"، بينما يُمنع بث صور الضحايا، لأنّها "قاسية" أو "غير لائقة للبثّ". هذا المنع ليس عفوياً، بل هو جزء من استراتيجية لإرباك السردية المصمّمة بعناية. لقد انتقلنا من مجرد تبرير القتل إلى تجميله، ومن تجميله إلى الاحتفاء به كفعل بطولي أو دفاع مشروع عن النفس.
2. الضحية المتّهمة: قلب موازين العدالة
في هذا الزمن المقلوب، لا يكفي أن تكون ضحية لتُصدّق. بل يُطلب منك أن تشرح جرحك، وتبرّر صراخك، وتقدّم أدلّة دامغة على ألمك وكأنّ نزفك لا يكفي. إنها سخرية القدر التي تجعل المذبوح في قفص الاتهام، يُحاكم على "وحشيته" لأنه قاوم أو صرخ، بينما الجلاد يجلس بثياب نظيفة على منصة البطولة يتلقى تعاطف العالم.
هنا، يُحاسب القاتل ضحيته أخلاقياً على ردّة فعلها، فيما يُغضّ الطرف تماماً عن الجريمة الأولى. يُطلب من الضحية أن تكون مهذبة في ألمها، هادئة في موتها، متحضّرة في جوعها وخوفها وشتاتها. إنها لحظة ينهار فيها منطق العدالة وتتعالى فيها أصوات النفاق، لحظة تتجلى فيها قسوة هذا العالم الذي لا يرى إلا ما يراد له أن يراه.
3. التلاعب بالسردية: القتل بالمقص والمونتاج
لم تعد الحقيقة اليوم تُقصَف بالصواريخ فحسب، بل تُقصَف أيضاً بالمقص. إنها عملية "بتر" للقطات و "قص" للآلام، حيث تُرتَّب المشاهد على طاولة التحرير بحيث يظهر الضحية مهاجماً، ويبدو القاتل شاحباً خائفاً مظلوماً.
يُعاد ترتيب المشهد بدقة تليق ببرامج الترفيه لا بالأخبار العاجلة. يُحذف صوت الرعب من العيون، وتُمحى آثار الدم عن الجدران، ثم تُقدَّم الحكاية من منتصفها. يُرغَم المتلقي على التفاعل مع زاوية واحدة، ويُدفع لتبنّي رواية منتقاة بعناية تخدم الجلاد وتهين الضحية.
يصبح السؤال الأول في كل كارثة: "لكن ماذا فعلوا ليُقصفوا؟"، وكأن المأساة تحتاج إلى تبرير، وكأن الأطفال المطعونين بالحديد يجب أن يقدّموا تقريراً بأفعالهم كي يُغفر لهم موتهم. هكذا تُقتل الحقيقة، لا بصاروخ بل بكاميرا، لا بصوت مدفع بل بصوت مذيع يُخبرك أنّ المأساة "معقّدة"، وأنّ عليك أن تنتظر "الرواية الرسمية" المضخمة بالخداع.
4. لعبة التعاطف المسروق: القتلة بلُغة إنسانية
في هذا الزمن المشوّه، لا يكفي أن تقتل أحدهم، بل عليك أيضاً أن تبكي بعد ذلك أمام الكاميرا وتقول: "لم أقصد". حينها، تُفتح لك الشاشات، وتُفرَش أمامك مآدب التحليل، ويتكفّل الإعلام بتغليفك بورق السلوفان العاطفي.
تتحول اللغة إلى سلاح أقوى من الرصاص. تكفي جملة واحدة، باكية ومكسورة التكوين، كي تنقل القاتل من ساحة الاتهام إلى رُكن التعاطف. يظهر بملابس بسيطة، يلتفت بعينيه بين المراسلين كأنه تائه في الزحام، ليتحوّل فجأة إلى صورة تُعلّق في القلوب.
تبدأ لعبة التلاعب بالعواطف: عدسات تُقرّب ملامحه المرتجفة، موسيقى حزينة ترافق صوته، وكلمات مشفوعة بالأسى. الهدف هو سرقة مشاعر الناس من الضحايا الحقيقيين، وإهدائها للجلادين بلمسة مخرج بارع يعرف تماماً كيف يربح معركة الشعور قبل معركة الرواية.
5. الوجع الصامت: من لا يملك كاميرا لا يملك صوتاً
في عالمٍ يهيمن عليه الإعلام، لا يُحتسب الوجع إلا إذا كان مصحوباً بصورة تُعرض على الشاشات، أو مقطع فيديو يُتداول على منصات التواصل. الألم الخفي، الذي لا يُوثّق ولا يُبثّ، يصبح بلا وزن أو أثر.
الضحية الحقيقية التي لا تملك منبراً أو ميكروفوناً، تبقى مجرد رقم في سرديات تُبثّ من خلف كواليس المشاهد. بينما الجلاد الذي يملك قوة الإعلام يسيطر على المشهد ويعيد كتابة التاريخ على طريقته. يخفي دماء الضحايا تحت ضباب من الكلمات الملتوية، ويحوّل أصوات الصراخ إلى صدى مموّه.
هنا تُقاس العدالة بمدى حضورك في الإعلام، وليس بحجم الجريمة أو عمق الألم. هنا تفقد الحقيقة معناها، لتصبح لعبة صورة ونص، تبرر القتل وتجمّل القبح. فتتبدل الموازين، ويصبح الضحية هو من لا صوت له، والجلاد هو من يملك الكاميرا.
الخاتمة: واجب كشف الحقيقة
في النهاية، يبقى السؤال: إلى متى سنسمح للإعلام أن يعيد رسم ملامح الحقيقة حسب رغباته ومصالحه؟ حين يُجمّل القبح ويحوّل الجلاد إلى بطل، يُصبح كشف الحقيقة واجباً ومسؤولية تقع على عاتق كل واحد منا.
إن الحقيقة ليست لعبة أو موضة عابرة، بل هي الضمير الذي يرفض أن يُشوه ويُخدَع. وهي القوة التي لا تُهزم مهما حاول البعض إخفاءها خلف ستار التزييف والتجميل. فلنحافظ على وعينا، ولنواجه هذه اللعبة الكبيرة بصراحة ونقاء، فالحقائق وحدها تستحق أن تُروى، لا صورٌ مُزيفة ولا أبطالٌ مصطنعون.
مقالات منشورة في عدد من المنصات والصحف الثقافية العربية، من بينها:
• صحيفة المثقف
• صحيفة القدس العربي
• منصة جوك
• وعدة صحف ومجلات أخرى.