كان التعامل الإسلامي مع الطوفان سيئًا، بل شديد السوء…

كان التعامل الإسلامي مع الطوفان سيئًا، بل شديد السوء... إذ عجزت أمة بأكملها ( وهي من بين قلة من الأمم التي ما تزال تحتفظ بوحدة نفسية كبيرة) عن إيقاف حركة إبادة واسعة راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء، مع تجويع لم يسبق له مثيل، ولم تستطع، رغم كل الشعارات والروابط الدينية، أن تُدخل قطرة ماء واحدة إلى داخل القطاع المحاصر.

ومع ذلك، ورغم هذا الفشل الظاهر، يمكن القول إن التعامل الإسلامي كان جيدًا بمعيار السياق التاريخي والسياسي؛ فـ"الطوفان"كان من ضمن ما كانه، مرآة كاشفة لوجود فراغ داخلي شامل يسكن الأقطار الإسلامية، فراغ في الإرادة والإدارة والتنظيم والقدرة والخيال السياسي، وفي معنى الفعل الجماعي ذاته، لقد عرّى الطوفان حقيقة البنية النفسية والسياسية للعالم الإسلامي، لا بوصفه كيانًا عاجزًا فقط، بل كجسد أُصيب بالشلل نتيجة الانقسام الداخلي وفقدان المعنى المشترك للفعل…

وكما تحدثت مرارًا وتكرارا فإن لب إشكال الحيرة، راجع إلى سننية لم يتفطن لها، إذ يتغير الواقع ببطء، ببطءٍ يجعل الناس لا يدركون التحولات حين وقوعها، لأن التغير يحدث في اللبّ مع محافظته على القشرة الخارجية، فيبدو المشهد من بعيد ثابتًا مطمئنًا، بينما يتآكل جوهره في العمق، ومن ينظر إلى هذا الواقع بعين سطحية، فيصوغ رؤيته أو مشروعه بناء على ما تراه عيناه من القشرة، إنما يحكم على ذاته بالفساد؛ فساد الفهم أو فساد الفعل.

الكثير من علامات التعجب التي ارتفعت خلال العامين تعبّر عن هذا المشكل، فهناك من يقول: كيف يعقل أن الناس لا يقاطعون المنتجات المعادية؟ كيف لا يخرجون للتظاهر؟ كيف يسكتون أمام المذابح؟ وهذه الأسئلة تنطلق من افتراض أن الناس أهل إيمان صلب، وإسلام يسري في الدماء، ونخوة تستيقظ عند الحوادث الجلل. غير أن هذه الصورة إنما تنتمي إلى القشرة القديمة التي لم تعد تعبّر عن اللبّ الجديد الذي تكوّن تحتها عبر عقود طويلة من التحلل البطيء...

والنظر إلى القشرة الخارجية يوهم بأن المجتمع ما يزال مسلمًا في جوهره، وأنه بالضرورة سيتحرك حين تُمسّ قضاياه الكبرى. لكن من ينظر في الأعماق يدرك أن هذا المجتمع تعرّض لعمليات تفتيت وتذرية وتشتيت وتجهيل وتفسيق منهجية، داخلية وخارجية، رسمت معالم الشخصية الجمعية للأجيال الجديدة، وبدّلت ببطء أنماط الانتماء والتفكير والتلقي، فهناك من صار يؤمن بشرعية الدولة الحديثة وقوانينها بوصفها المرجعية العليا، وهناك من صار يخاف على امتيازاته المادية والوظيفية فينكمش ويكفّ عن الفعل، وهناك من يرى العالم من منظور قومي ضيّق يقسم الأمة إلى "بلادنا" و"بلاد الآخرين"، وهناك من أصبح يتصور الدين طقسًا تعبديًا محدودًا لا يتجاوز الجوامع. وهكذا تَشظّت البنية النفسية والرمزية للأمة إلى شظايا متباينة لا يجمعها خيط معنى واحد…

من أجل ذلك نقول بأن الفعل كان سيئا، وشديد السوء، لكنه جيد في الوقت عينه بالنظر للسياق، و جميع أنماط الفعل التي ظهرت طوال الطوفان (على تواضعها وتشتتها) تظل جيدة ومبشّرة بالنظر إلى خصوصية الواقع الراهن...فأن ترى في أمة أنهكها القمع والفراغ والتفكك بقايا فعلٍ تضامني، أو موجات دعم معنوي ومادي وصلت بالنساء إلى بيع كل ذهبهن على قلة دخلهن، أو أصواتًا لم تصمت رغم محاولات الإخماد، فذلك في ذاته دليل حياة.

لكن التحدي الحقيقي لا يكمن في لحظة الفعل الانفعالي، بل في تحويل هذه اللحظات إلى فعل ثابت، مؤسسي، منظم وفاعل، في الانتقال من العاطفة إلى البنية، ومن الحماسة إلى المشروع، وعلى هذا لابد أن يكون العمل، خلال ما تبقى من عمر كل إنسان يثقله دين أهل الطوفان عليه.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات