قطر وأوهام دبلوماسية الإنابة

شكل الهجوم الإسرائيلي على قيادة حماس في العاصمة القطرية موضع جدل واسع، وذهب النقاش الى تفاصيل الموضوع على حساب جوهره، وفي تقديري الأولي أن "فشل العملية" هو الذي دفع الى أولوية التفاصيل على حساب الجوهر ، فلو تمت تصفية قيادة الحركة لاتخذ عرض الموضوع ومناقشاته شكلا آخر.

أولا: ليس لدي أدنى شك بان تحقيق الهدف في استراتيجية نتنياهو يعلو على اي اعتبار آخر(كاعتبارات السيادة والقانون الدولي والتحالفات وغير ذلك) ، فالهدف هو محاولة لتكرار الضربات الموجعة جدا لمحور المقاومة ، فإسرائيل قتلت القيادات المركزية وأصابت وقتلت وجرحت آلاف العناصر من حزب الله في فترة لا تتجاوز الساعات في عملية البيجرز، ،ونعلم تداعيات هذه الضربة على المشهد في المنطقة ، وتمكنت إسرائيل من قتل عدد كبير من الصف الأول العسكري والعلمي في المنظومة العسكرية والعلمية الإيرانية في ساعات قليلة ،وكيف انتظرت الولايات المتحدة وبعض دول الإقليم احتمالات اشتعال الاضطرابات في ايران وصولا للأمل في انهيار النظام ، ونجحت إسرائيل في قتل الوزارة اليمنية في قلب صنعاء برئيس وزرائها واغلب طاقمه الحكومي، وها هي تحاول تصفية قيادة حماس بضربة واحدة كجزء من خطة نتنياهو للقضاء المبرم على المقاومة الفلسطينية ومحورها ، لكن الفشل الذريع للعملية أخذ النقاش الى التفاصيل لا الى الجوهر، وتتمثل هذه التفاصيل في هل علمت أمريكا أم لم تعلم بالخطة الإسرائيلية؟ وهل تم إبلاغ قطر ام لا ام تأخر الإبلاغ؟ وأين رادرات وشبكات الاستشعار في القواعد الأمريكية المنتشرة في الدول العربية التي مرت منها الطائرات، فللولايات المتحدة 19 قاعدة عسكرية، وأكبرها في قطر(قاعدة العديد )..الخ من التفاصيل .

والأمر اللافت للنظر أن البيانات الإسرائيلية الأولى حول العملية كانت تنطوي على قدر كبير للغاية من الثقة بالنتائج ،وهو ما اتضح من البيانات العسكرية أو من نتنياهو أو من بيانات مكتبه أو من اغلب القنوات الإسرائيلية الفضائية بما فيها هيئة البث المباشر،، لكن تواتر الأخبار عن الفشل ونجاة الهدف أربك المشهد الإسرائيلي كثيرا، بخاصة أن تقديرات الإسرائيليين لنتائج عملياتهم في ايران واليمن وسوريا ولبنان كانت صحيحة الى ابعد الحدود، مما جعل الجميع يتعامل مع البيانات الإسرائيلية كمُسلمات ، لكن مع الفشل غير المتوقع في الدوحة تم الانحراف بالنقاش الى جوانب بعيدة عن هذا الفشل العملياتي، ومن هنا من مصلحة نتنياهو تغييب الفشل.

ولا شك أن الحوار داخل المؤسسات الإسرائيلية يدور الآن لا حول رد الفعل العربي أو غيره، بل لماذا فشلت العملية، هل هي خلل استخباراتي، أو خلل عملياتي تنفيذي ، أو "حظ وصدفة" ..؟ مع الأخذ في الاعتبار أن نتنياهو يعيش في مشهد سياسي داخلي يجعله في امس الحاجة لتحقيق نقاط جديدة ، فحرمه الفشل في الدوحة مما انتظره على أحر من الجمر.

أما لو نجحت العملية، فان النقاش سيتجه نحو "ما بعد حماس، واثر ذلك على الإخوان المسلمين، وخسارة ايران، والدليل على عقلانية النظام الرسمي العربي، وكوارث طوفان الأقصى، ...وانتصار نتنياهو، وترحيب ترامب، وانه لم يعد أمام المقاومة إلا الإفراج عن الرهائن...الخ.

ثانيا: من غير المقبول تصديق أن الولايات المتحدة لم تكن على علم بالضربة الإسرائيلية، بل قد تكون ساهمت في توجيهها من خلال شبكة الروابط مع دول "الناتو العربي " الذي يضم إسرائيل والذي تم استكماله بضم إسرائيل لقيادة القوات الأمريكية المركزية بدلا من تبعيتها للقيادة الأوروبية".

إن من الطبيعي أن يعمل ترامب على النأي بنفسه عن "عملية فاشلة"، وحديث قطر عن أن الإبلاغ الأمريكي لهم تم بعد عشر دقائق من الهجوم هو امر متسق مع عقلية ترامب، فهل نسي ترامب أن يبلغ عن حدث كهذا؟ أم تعمد الإبلاغ بعد شعوره بفشل العملية؟ أم أن الإبلاغ هو ليدفن القطريون أي شكوك قد تراودهم ، فترامب –بعيدا عن أية مهابة سلطوية- محترف في الكذب والخداع، ويكفي أن أعيد القارئ الى مراجع أكاديمية من ذوي الاختصاص والصلة المباشرة بترامب لتأكيد شخصية الكذاب المحترف:

1- تقرير علماء النفس الأمريكيين عن شخصية ترامب(بدأ التقرير ب 27 خبيرا وتزايد العدد حتى 37 من المشاركين في الأعداد):

Bandy X.Lee(et.al)-The Dangerous Case of Donald Trump)-Martin's Press. 2017.384 pp

2- كتاب مستشار الأمن القومي الأمريكي (في فترة ترامب الأولى) جون بولتون:

The Room Where it Happened:A White House Memoir.Simon &Schuster.2020.592 pp.

3- كتاب ابنة أخ ترامب(وهي طبيبة نفسية) :

Marry Trump-Too Much and Never Enough:How My Family Created the world's Most Dangerous Man.,simon & Sch uster,2020.240.pp

ثالثا: رغم بيانات الإدانة العربية للعملية الإسرائيلية الفاشلة ،فان علاقات قطر بأغلب الدول العربية هي علاقة "ملتبسة" بخاصة من زاوية علاقات قطر بالحركات الإسلامية، وبسبب خروج قناة الجزيرة على تقاليد الاعلام العربي وتسببها في قدر من الاضطراب ،ناهيك عن ميول السياسات القطرية المتضاربة مع عدد من الدول العربية في التحالفات بين اطراف الصراع في ليبيا والسودان وفلسطين ومصر وسوريا…الخ، الى جانب انعكاسات العلاقات التركية القطرية على العلاقات القطرية الخليجية(في بعض جوانبها).

لذلك فان إسرائيل تدرك تماما أن الشجب من البعض العربي هو "تكتيك " لا يعكس الاستراتيجية العربية تجاه قطر، ويكفي التذكير بأزمة عام 2017 مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر، فإسرائيل "خبيرة من الدرجة الأولى" في فهم السياسات العربية.

رابعا: إن دبلوماسية الإنابة" Proxy Diplomacy " التي تنتهجها قطر حققت لقطر مكاسب دبلوماسية وجعل منها مركزا تفاوضيا للعديد من الأزمات الدولية، لكن قطر بدأت تتلقى بعض أوزار هذه الدبلوماسية، فالهجوم الإيراني على قاعدة العديد في يونيو 2025 ، والهجوم الإسرائيلي امس هو دليل على ان البروز القطري دبلوماسيا وإنْ كان يشبع غرور دولة "صغرى" لكنه يذكرها بعدم التمادي في الوهم، فإذا تصارعت الفيلة فلن يداس الا العشب كما يقول المثل الإفريقي.

ومن المؤكد أن كلا من إسرائيل والولايات المتحدة ودول عربية أخرى تدرك أن حدود ردود الفعل القطرية ستبقى قاصرة عن الإيذاء نظرا لمحدودية القدرة القطرية ، ونظرا للحرص القطري على استمرار دبلوماسية الإنابة رغم أوزارها، وإدراكها الفرق الكبير-في عالم كرة القدم- بين مراقب الخط وبين اللاعب وبين الحكم في المباريات الرياضية ،فما بالك في العلاقات الدولية؟ فالطائرة الهدية لترامب لا تضمن تجاوز غوايتها حين تحتاج مؤسسات دولة عظمى لتجاوزها. ومن يريد الرد فمكتب الموساد موجود في قلب الدوحة.

خلاصة الأمر، أرى أن العملية الإسرائيلية تم تنسيقها مع الولايات المتحدة ، وربما اطراف عربية محشوة بالثأر بخاصة ممن سلبتهم الدوحة بريق المكانة الإقليمية ، لكن فشل العملية- غير المتوقع- في تحقيق هدفها الكبير والدسم دفع الى ارتباك المواقف في البيت الأبيض وإسرائيل وبعض المضارب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات