لأن الطريق الى جهنم معبد بالنوايا الحسنة ، فقد تسلحت بسوء النية عند قراءة المشهد العربي العام ، وأود هنا أن أتوقف عند بعض الظواهر:
أولا: تزايد جرعة العلمانية في الاعلام العربي :
تشير مراقبة الاعلام العربي (المرئي والمسموع والمقروء –الرسمي والمواقع الإلكترونية منه أو من المجتمع-) الى اتساع مساحة حضور الباحثين والمتخصصين في الآثار والأنثروبولوجيا وعلوم الأديان المقارنة، مع التركيز على بعض الموضوعات بشكل واضح بخاصة التشكيك في الرواية التاريخية للموروث الديني المقدس وغير المقدس مثل : القدس في اليمن، نفي وجود موسى، الاحاديث النبوية كلها غير صحيحة، مصر المذكورة في القرآن ليست مصر التي نعرفها، الحكايات الدينية في الإسلام والمسيحية واليهودية جذورها تعود لأساطير الحضارات ما قبل الأديان في منطقتنا بل وخارجها أو بجوارها( الهندوسية والبوذية والزرادشتية..) ،والتوحيد بدأ مع زرادشت، أو مع أخناتون، أو مع أهورا مازدا...الخ. ومنذ كمال صليبا و فرج فودة و فاضل الربيعي وخزعل الماجدي وفراس السواح ناهيك عن بعض تلميحات مبكرة من المفكرين في المغرب العربي مثل محمد أركون أو الجابري (ولو في نطاق أقل حدة) إضافة لبعض مقدمي البرامج التلفزيونية التي تنتقي من يدور في هذا الفلك لإجراء الحوار معهم..كل ذلك يجري في فترة التضييق على" الإسلام السياسي" بحق أو بدون حق.
وهنا أنا لا أؤيد أو أنفي صحة هذه الأدبيات لأني لست مؤهلا لإصدار الأحكام لتقييمها، فهذه موضوعات شائكة ومعقدة رغم اطلاعي على اغلبها، لكني لست مزودا بالذخيرة المناسبة (بخاصة اللغات القديمة ) ولا بمناهج التحليل لهذه الأدبيات، فأنا قارئ جاد فقط، واهتمامي هنا ينصب على " التوقيت" لا على المضمون، النقاش حول الأديان لم ينقطع في التاريخ العربي وغير العربي، لكن الموضوع هو أن من يتبنى المشككين في الرواية الدينية هم حراسها من الأنظمة السياسية في فترة سابقة .
سؤالي: ما مدى براءة هذه الاتساع المتواصل في هذه الأدبيات حاليا ؟ هل هي يقظة فكرية؟ أم هي الذراع الثقافي لمخططات سياسية تستخدم استراتيجية الحق الذي يراد به باطل؟ ثم لماذا أن الأكثر ترويجا لهذه الأدبيات في هذه الأيام هي التيارات والدول التي كانت تضيق ذرعا أمام المد اليساري أو شبه اليساري بأي تلميح علماني ؟ هذه الجهات الرسمية التي روجت سابقا للموروث الديني هي التي تتبنى الترويج للعلمانية حاليا، فلماذا ؟، أنا اسأل لتوسيع إدراكي المحدود،
ثانيا: فاقد الشيء لا يعطيه:
عند رصدي لحلقات التحليلات السياسية أشعر بالذهول من " الثقة المفرطة " للعديد من ضيوف هذه الحلقات ، وازعم أن المتدخلين في هذه التحليلات من الأخوة "المصريين واللبنانيين" بخاصة هم الأكثر وضوحا في هذه الظاهرة، فعندما تستمع-كمثال- الى تحليلات رئيس قسم الشؤون الدولية في الأهرام العربي المصرية، تجد حجم زعم المعرفة كما لو انه "الانسايكلوبيديا البريطانية"، ولا يتورع عن السخرية من المقاومة وتسخيفها والادعاء بانه يدرك كل ملابسات الحياة الدولية، وتسمعه يردد العلم، مصر، جيش مصر، مكانة مصر، وهي ادعاءات ناتجة عن التغذي والزهو بتاريخ مصري حضاري –وهو امر لا شك فيه- لكنه لا يقر بواقع معاصر يقول بان ترتيب مصر في الإنتاج العلمي والإنتاج التكنولوجي وإجمالي المكانة الدولية يتجاوز المرتبة 132(من بين 193 دولة)، وهنا العقدة المتمثلة في " لاوعي " المثقف الغارق في الزهو التاريخي يقابله وعي معاصر لكنه يعاند في أن مصر لم تعد أكثر من دولة هامشية في الشأن الدولي، بل هي دولة كل جوارها مشتعل (البحر الأحمر شرقا، وليبيا غربا، والسودان جنوبا، وغزة شمالا) بل وكسرت أثيوبيا أنفها وأخذت ما تريد من النيل، ثم أن الفساد وضعها في المرتبة 130 عالميا بين 180 دولة وبمعدل شفافية لم يتجاوز 30من مائة، وعند قياس منح براءات الاختراع وطلبات لبراءات الاختراع نجد أن معدل مصر يساوي 12% تقريبا من المعدل الإيراني وحوالي 7% من المعدل الإسرائيلي و ما يعادل 0.35 من كوريا الجنوبية...لذا ليت هذا النمط يتوقف عن النصائح والصراخ ووهم أن مصر في أول الطابور وان هؤلاء هم المعلمون للعالم...وبالمقابل نسمع سياسيين في لبنان يوحون لك أن ملفات الكون " في رفوف مكتباتهم"، بل أن بعضهم يقود قوى سياسية لا يصل عدد الأعضاء فيها عن عدد الحاضرين لندوة أو حفلة عرس لكنه يُطل على كل المخططات الدولية بخاصة السرية منها...لكل هؤلاء أقول : تواضعوا..فزمن " الشطط" انتهى…
سؤالي: هل الأنسان العربي بحاجة لعلماء النفس أكثر أم علماء البيولوجيا اكثر؟
ثالثا: الدراسات المستقبلية والجامعات العربية:
لم يعد من الممكن التعرف على عدد الجامعات التي تقوم بتدريس تخصص"الدراسات المستقبلية" في العالم ، لكن المؤكد إنها تنتشر بتسارع ،وأصبحت أقساما قائمة بذاتها لا في الدول الكبرى والصناعية فحسب بل وفي دول من "العالم النامي" ،مثل جنوب إفريقيا وايران والأرجنتين والمكسيك والهند..الخ،
واعترف أن "بُحَ" صوتي للدعوة لفتح هذا التخصص أو على الأقل تدريس مقدمات له ، فحتى هذه اللحظة لا يوجد جامعة عربية واحدة تجاري بقية العالم، فهو تخصص غائب تماما من مؤسساتنا الأكاديمية ، بينما في ايران- لا داعي للتحدث عن الدول المتقدمة- في جامعة أصفهان هناك قسم كامل للدراسات المستقبلية وفيه دراسات عليا ، وبالطبع لا أريد الحديث عن إسرائيل، فهذا يفتح الجراح.
سؤالي: لماذا يغيب هذا التخصص؟ هل لسطوة النزوع التاريخي نحو الماضي في العقل العربي ، فالحرية لا تتجسد في العلاقة مع الزمن إلا من خلال المستقبل، فالماضي انتهى ولن تستطيع تغييره، والحاضر لا يسعفك الوقت القصير لتغييره، بينما المستقبل هو الذي يمنحك حرية التفكير والحركة، فلماذا يغيب ؟ هل هو الخوف النفسي من الغد، هل طبيعة العقل العربي؟ هل هو دافع سياسي وراء ذلك، لا اعرف، فالأكمة عالية وتسد الأفق العربي.
رابعا: ظاهرة حمد بن جاسم:
رئيس وزراء قطر السابق (وشغل مناصب عديدة أخرى) اطلق تصريحات خلال مقابلات متفاوتة منذ إخراجه من المسرح السياسي على يد الأمير الحالي تميم، وتشير تحليلاته وبعباراته أن دول الخليج أو اغلبها" مقاولون لأمريكا من الباطن، هي تأمر ونحن ننفذ"، وان قطر أنفقت 137 مليار دولار لإسقاط النظام السوري السابق، وأن الكثير من المنشقين السوريين تمت غوايتهم بالمال ،وان رئيس الوزراء السوري رياض حجاب قبض 50 مليون دولار مقابل الانشقاق، وتحدث عن لقاءات مع إسرائيل سرية وعلنية ، وعن التعاون مع الإخوان المسلمين والخلاف معهم وعن انقلاب حمد بن خليفة...الخ..وكل ما قاله يوضح أن " الربيع العربي" هو من صناعته بشكل رئيسي، وأن خلاصة رايه توحي بان ما سمي الربيع هو " خطة" وليس يقظة.
لكن الملفت أن هذه المعلومات الخطيرة جدا جدا، غابت عن شاشة الرأي والرأي الآخر، لماذا؟ ، ثم هل حاولت الجزيرة أن تستضيفه ليكشف ما هو اكبر، فأثناء الفوضى العربية مع نهايات 2010 الى عزله تحدث مع الجزيرة ثم غاب عندما بدأ بكشف المستور سواء للتاريخ أو انتقاما من "العُزَّال" ؟ هل تصريحاته هي انتقام من النظام القطري القائم لأنه جرده من مناصبه وهمشه من دائرة صنع القرار ناهيك عن التضييق على مشاريعه ، فهو رجل تقدر مجلة فوربس(Forbes) ميزانيته بحوالي 5.1 مليار دولار؟ ثم ما طبيعة صلاته بهيئات مريبة مثل بروكينغز وسابان وعدد من المؤسسات المالية القطرية وغير القطرية…
هل يميل الساسة العرب الى الانتقام ممن يحرمهم إكمال مهماتهم؟ هل التركيبة السيكولوجية كافية لتفسير مثل هذه الازدواجية؟ ما دوره في أزمة قطر مع بقية دول الخليج ومصر بخاصة الأزمة الأخيرة 2017 ؟ هل قضية فواز العطية تكشف أبعادا من سيكولوجية الرجل؟ وهل اتهامات صحيفة الوطن البحرانية ضده تشير الى ما هو اعمق من دور يقوم به؟ وهل ما تم تسريبه عن "خطة" مع القذافي ضد السعودية صحيحة ،ولماذا ؟ وما تفسير موقفه من ايران؟ بل وإعجابه بالمفاوض الإيراني؟...والكثير من الأسئلة....
مرة أخرى أقول أن خير ما يعبر عن الحقيقة في العالم العربي هو استعارة وليم جيمس العبارة المنسوبة للعديد من الفلاسفة عن الفيلسوف الميتافيزيقي " أنت كالأعمى الذي يبحث في الليل عن قط اسود في كهف مظلم ،وصرخ بانه امسك بالقط رغم انه ليس هناك قط أصلا... أُفٍّ...ربما.