التاريخ كثيرا ما يعيد نفسه، في مواقع وأزمنة مختلفة، ولكن قد يأتي بالكوارث ذاتها : حين تقرأ ما تخطه "النخب التونسية " وما يتجادلون فيه في كل الفضاءات، تستحضر مخيلتك سريعا جدل بيزنطة ، تلك الإمبراطورية العظيمة ، التي استسلمت سريعا لمحمد الفاتح في القرن السابع ، وحين كان الوطيس حاميا ، كانت نخبها الدينية والعلمية والثقافية، متكئين في راحة بال، يتجادلون ويتصارعون بحجج مسقطة من الكتب المقدسة والتاريخ والأساطير ، الكل كان يريد إثبات صواب رأيه و الكل يخاصم الكل والكل يكفّر الكل، ، لذلك سرعان ما تنقسم المجموعات الى مجموعات اصغر، كالخلايا…
وبينما كان الجيش التركي يهدم الأسوار بالمجانيق ويدك المدينة بالمدافع ، كان الجدل حاميا ، حول جنس الملائكة، ما إذا كانوا ذكورا أم إناث، وحجم إبليس، ما إذا كان صغيرا يدخل من ثقب الإبرة ، أم كان ضخما مثل الغول ، وما اذا يحق للمرأة أن تدخل الجنة أم تنتظر زوجها ...
الآن ، تابع (ي)نقاش التونسيين عبر صفحات التواصل وغيرها مما تبقى من الفضاءات: هل تجد نقاشا عميقا ومثمرا، (عدا السخرية السمجة)، حول الوضع الاقتصادي المتدهور؟ الوضع السياسي الخانق؟ حول تعليم انحدرت مستوياته حتى سقط في الرداءة والرتابة؟ حول مستقبل شباب ضاعت أحلامه؟
اقصى ما يمكن أن تجده : جدلا سطحيا ومستفزا حول من يتحمل مسؤولية الوضع الحالي، لا بغاية التجاوز ، بل لإراحة ضمير مهزوز وفكر سياسي مناكف وجامد، وستنحدر قليلا لتقرأ ردودا ساخرة على "بيان" سيدة شبه معتوهة و "نائب " متنمر ،يعاني الانفصام و"نائبة" عنصرية و ساذجة جاءت بها نوائب الدهر ونصف صحفي متزلف لا يتقن إلا الشتم…
بل ويتجرأ البعض على مجادلتك في اعمق مشاعرك الخاصة: ما اذا يحق لك ، وسط حزنك العميق ونكد دهرك ، أن تستمتع لدقائق بأغنية رومانسية جميلة ، أم انك تبحث، أولا، في سيرة الفنان نفسه، كل ذلك بغاية تنكيدك ، لان في بلد الحزن والكراهية ، يُمنع الحب والفرح…
يُروى أن ما بقى من الكهنة والعلماء والمثقفين في بيزنطة ندموا ندامة الكسعي بعد فوات الأوان ، لكن اشك أن التونسيين ، بالثقافة الحالية ،سوف يتأسفون لبلد أضاعوه وسط جدلهم البيزنطي العقيم.