ليلنا الطويل

“إلى متى هذا الليل”؟ سألني صديقي.
“عن أي ليل تتكلم؟” أجبته.
“عن ليلنا في غزّة”، أجابني.
لكن ليل غزة ليس ليلاً، إنه يعيد إحياء التمييز العربي بين ليلين، ليل طويل هو الموت، وليل قصير هو النوم.
في أي من الليلين نحن؟
هل نحن أمام الموت أم أمام نوم يقود إلى يقظة تنتظرنا؟

وكلمة ليل تحيل إلى معان متعددة؛ “فليل العاشقين” طويل كما كتب المتنبي، وهو يشكو الحبّ الذي يعذبه، وبيرم التونسي يريد إطالة الليل في قصيدته “أهل الهوى” التي تغنّيها أم كلثوم. فالليل كان اطاراً تتشكل فيه المشاعر، وأرضاً خصبة للحكايات والخرافات. وكانت نجومه هي عيون السماء التي “تنظر للأرض في فتون”، كما كتب عبد الوهاب البياتي.

كان الليل منبع الحكايات التي كانت ترويها شهرزاد، وإطار قصص المقامات التي رواها الهمذاني والحريري، فالليل لا يخرج أسراره إلا في العتمة، ويأخذنا في رحلات لا تنتهي مع الجن والعفاريت والكائنات الخرافية بحيث تختلط الحقيقة بالخيال.

كان الليل متعدد الاحتمالات والوجوه كأنه أحد مرايا الروح. مرآة سوداء يخترقها ظلال ضوء النجوم وينيرها أيام قليلة في الشهر ضوء القمر، مرآة تعكس الأحلام والمخاوف والخيال والذكريات، وتأخذنا إلى حكايات لا تنتهي.

لكن الليل مات.

لم يمت الليل فجأة بل مات تدريجياً، إذ حلت الكهرباء مكان النجوم، وصار التلفزيون بمسلسلاته هو راوي القصص، وانتهى الخوف من العتمة. حتى في بيروت، حيث لا كهرباء، فقد وجد الناس وسيلة لقتل الليل عبر المولدات الكهربائية.

والناس معها حق، فموت الليل الخرافي كان حتمياً مع التقدم العلمي، لذا لم يستطع سكان لبنان تحمل العودة إلى العتمة. فالعتمة بعد موت الحكايات والخرافات تتحول إلى مرتع للجريمة، وهذا ما حصل في لبنان ويحصل في المشرق العربي حيث دمر الاستبداد مولدات الكهرباء.

غير أن ليل الخرافات والحكايات استُبدل به ليل مختلف، ليل صاخب بالمقاهي والبارات، أو ليل خائف ليس من العتمة بل من ضوء الاستبداد الباهر.

هكذا تعيش بيروت ومدن المشرق العربي مناخات صاخبة هامشية لكنها تملأ أحياء الجميزة ومار مخائيل والحمرا، وأحياء يغطيها الفقر والبؤس والصمت وعتمة الروح.

عندما أحاول فهم هذه الظاهرة أُصاب بالعجز، إذ لا أعرف كلمة واحدة تلخص هذا الواقع بكل إشكالاته.

وربما فاتني وأنا أتكلم عن ظاهرة موت ليل الخرافة، التوقف عند ليل لم يمت وكنت على يقين، وأنا أعمل في الصحافة منذ ثلاثة عقود، من أنه لن ينتهي، إنه ليل الكلمة المكتوبة التي تطبع في صحيفة ينتظرها في الصباح ألوف القراء.

كان ليل الصحافة مدهشاً. كنت في بعض الأيام أسهر في الجريدة حتى الفجر، كي أرى “ملحق النهار” يخرج من المطبعة، وأشمّ رائحة الحبر بشغف من يشم رائحة الخبز الطازج.

كان ليل الصحافة بالنسبة لنا، كصحافيين، وبالنسبة للعديد من القراء، هو وريث ليل الحكايات. لقد أنتج موت الخرافة حقيقة جديدة لليل، فصار ليلنا مرآة النهار، والعمل فيه حتى في ظل انقطاع الكهرباء في بدايات الحرب الأهلية، متعة حتى ونحن نشهد كيف كانت عيوننا تحترق من أثر قنديل الغاز.

كانت صحافتنا في بيروت ليست فقط وريثة الليل اللبناني، بل وريثة الليل العربي أيضاً. من “الحياة” إلى “الحوادث”، ومن “النهار” الى “الأنوار و”المحرر” و”السفير”… كان ليل بيروت هو نهار العرب، وكانت الأفكار تختلط بالبترو دولار، والحقائق بالأكاذيب، والدعارة بالطهارة. نحبه ونكرهه، نريده ولا نريده. لم نكن الحداثة، بل كنا حافتها المليئة بالوعود. وعندما ماتت الصحافة اللبنانية، مات ليلنا، وماتت المدينة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات