الجبل الأحمر: سطحية الإنتاجات الفنية والإعلامية التونسية

استمعت لبرنامج حواري في شمس أف ام حول مسلسل الجبل الأحمر. والحقيقة، من بين مجموع المداخلات التي كان فيها السمين والغث، استفزني تعليق من أحد الحاضرين قال فيه تقريبا بشكل حرفي أن: تكون الجبل الأحمر كان عقب الإستقلال مباشرة والسبب فيه هو هجرة سكان المناطق الريفية لأراضيهم بعد تطبيق النظام الإشتراكي في تونس مع تجربة التعاضد التي افتكت الأراضي من الفلاحين وسكان الأرياف ودفعتهم إلى الهجرة نحو المدن.

الحقيقة، لم يستفزني هذا الحديث لما فيه من مغالطة حول تجربة التعاضد ذاتها، بل لما يعكسه من عدم معرفة جلية بالتاريخ الحضري لمدينة تونس. فتكون الجبل الأحمر، وغيره من مناطق التحضر غير النظامي في مدينة تونس، يعود على الأقل إلى ثلاثة عقود قبل الإستقلال. وهو لا يمكن اعتباره بأي تحليل موضوعي نتيجة لسياسة التعاضد الفلاحية، إنما هو نتيجة مباشرة لسياسات فرنسا الاستعمارية في تونس.

أولا، كما تبرز صور الخرائط والصور الجوية التي أوردها سامي كمون في دراسته الرائعة عن تاريخ الجبل الأحمر، يعود أول ذكر للجبل الأحمر ك"تجمع سكاني عشوائي" (gourbis) على هامش مدينة تونس بمحاذاة ربض باب سعدون في خريطة صورها ثلاثة عسكريين فرنسيين كانوا ضمن بعثة استكشافية للمدينة سنة 1878.

ثانيا، كما نرى في صور التركيب المورفولوجي للجبل الأحمر بين السنوات 1938 و1949، فقد عرف هذا التجمع السكاني غير النظامي أوج توسعه وتركزه ضمن فضاء مدينة تونس في فترة الحرب العالمية الثانية. وهي نفس الفترة التي عرفت تكون عديد التجمعات السكانية العشوائية الأخرى في هوامش مدينة تونس، مثل بورجل والغمبتة وسيدي بن حسان وغيرها، كما نرى في خريطة توزعها بين السنوات 1930 و1941.

…
…

بل أن مفردة "الأحياء القصديرية" (bidonvilles) ذاتها، كما يذكر المؤرخ الفرنسي كلود ليوزو (Claude Liauzu) في مقالته حول نشأة الأحياء القصديرية وأزمة السياسة الاستعمارية في تونس، قد استعملت تاريخيا لأول مرة في الصحف التونسية الوطنية والإشتراكية لوصف مظاهر البؤس الحضري الذي خلفته سياسة الاستعمار في مدينة تونس. من ذلك، وصف الدكتور محمود الماطري أحد "الأحياء القصديرية" بمحاذاة بحيرة تونس ضمن مقالة نشرها في جريدة "صوت التونسي" (la voix du tunisien) بتاريخ 6 نوفمبر 1931. كما وصفت إيف نوهيل، المناضلة الإشتراكية الوطنية من أصل يهودي، زيارتها إلى ذات "الحي القصديري" ضمن مقالة نشرتها بتاريخ 8 نوفمبر 1931 في جريدة "تونس الإشتراكية" (Tunis socialiste).

ثالثا، وباختصار شديد نظرا لتشعب تفاصيل المسألة، تتفق جل الدراسات التاريخية والسوسيولوجية على أن تكون "أحياء القصدير" حول مدينة تونس في فترة الثلاثينيات والأربيعينيات يعد أساسا من مظاهر التفكيك الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع التونسي الذي أفرزته سياسات فرنسا الرأسمالية الإستعمارية. ولعل أهم عاملين ساهما في ذلك هما تجريد الفلاحين التونسيين من أراضيهم بالقوة لصالح المعمرين، الذي انطلق رسميا منذ سنة 1898 وبلغ أوجه سنة 1939، وتدمير الصناعات الحرفية المدينية بالحاضرة تونس بعد اشتداد أزمة الثلاثينات الإقتصادية وفتح السوق المحلية أمام المنتجات الفرنسية.

من ذلك، يرصد المؤرخ الفرنسي جون غانياج (Jean Ganiage)، في كتابه الشهير "أصول الحماية الفرنسية في تونس" (Les Origines du Protectorat Français en Tunisie)، تحويل ملكية قرابة 747 ألف هكتار من أخصب الأراضي التونسية لصالح 3400 معمر فرنسي بين السنوات 1898 و1939.

ويبرز بول صباغ، عالم الاجتماع التونسي من أصل يهودي، في كتابه الموسوعي "تونس: تاريخ مدينة" (Tunis: Histoire d'une Ville)، أثر أزمة الثلاثينات ومنافسة المعامل الفرنسية على الحرف والصناعات في مدينة تونس. حيث يذكر أن حاضرة تونس كانت تعد قرابة 3000 معمل شاشية في منتصف القرن 19 تشغل حوالي 7 آلاف أجير، انخفض عددها سنة 1934 إلى 300 معمل تشغل حوالي ألف أجير فقط. كما كانت الحاضرة تونس تعد في نهاية القرن 19 حوالي 1200 عرف يشغلون قرابة 6000 عامل ومتدرب في صناعة الحرير، انخفض عددهم سنة 1934 ليصل إلى حوالي 1000 متدرب وعامل فقط.

رابعا، ونتيجة ضمور النسيج الصناعي التقليدي بالحاضرة تونس، عجزت المدينة على استيعاب قسم كبير من الفلاحين النازحين الذين تحولوا إلى مشردين يهيمون على هوامشها. حيث تشير التقديرات الإحصائية التي أوردها الديمغرافي التونسي منصر الرويسي، في كتابه "السكان والمجتمع في المغرب العربي" (Population et Sociétés au Maghreb)، إلى أن عدد سكان مدينة تونس قد زاد بين السنوات 1936 و1946 بعدد 100 ألف ساكن، استقر حوالي 70 ألف منهم في "أحياء قصديرية" بضواحيها الفقيرة، وهو ما يعني تطورهم بمعدل يفوق ستة مرات الفارق بين نسبة الولادات والوفيات في المدينة.

وقد مثل بؤس الفلاحين والريفيين التونسيين المجردين من أراضيهم والنازحين إلى المدن أحد أهم عناصر النقد الذي وجهته الكتابات الوطنية التونسية لسياسات الاستعمار الفرنسي بالبلاد. من ذلك، كتب الشيخ عبد العزيز الثعالبي بكتابه "تونس الشهيدة" الصادر مطلع العشرينيات: "والحق ما الذي حل بالملاكين القديمين الذين كانوا يعيشون على الأرض الشاسعة التي يملكها اليوم الاستعمار؟ لا بد أن يكونوا في مكان ما، وهم لم يصبحوا مزارعين في مكان آخر لأن مساحة الأرض المزروعة لم تزدد من الاحتلال. لقد غدوا السوقة عند السادة الجدد، يضلون، والجوع رائدهم، على الدروب، ينيخون على المدن بكلكل بؤسهم".

أخيرا، كل ما ذكرته هو من باب الحرص على الأمانة التاريخية في المقام الأول، ومن أجل المساهمة في نشر بعض المعرفة المدفونة بين دفوف الكتب. ولا أدعي من وراء ذلك معرفة شمولية، لأن ما ذكرته لا يعدو أن يكون سوى شذرات تفاصيل مقارنة بالمحتوى العميق والتفصيلي الذي نعثر عليه في الدراسات التاريخية والسوسيولوجية والعمرانية حول تكون المدن والهوامش الحضرية في تونس.

أما عن نقد سياسات الدولة الوطنية إزاء الهوامش الحضرية، وتطور هذه الهوامش من "أحياء قصديرية" إلى "أحياء شعبية" في ضوء ذلك، يمكن لمن يرغب في الإطلاع عليه مراجعة أعمال جلال عبد الكافي ومرشد الشابي وبول صباغ وعمر بالهادي وفرج إسطمبولي، وغيرهم من علماء الاجتماع والعمران والجغرافيا الذين بذلوا من الجهد الكثير في دراسة التحضر العمراني في تونس. لكن، للأسف، يبدو أن كل ذلك الجهد المعرفي، مع ما أراه من سطحية في تناول هذه المسائل في الإنتاجات الفنية والإعلامية التونسية، لم يكن سوى صرخة في واد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات