الحاضر الغائب في المشاهد كلّها : أنت تفكّر خارج مستنقعاتهم فأنت نهضة

وإن كنت من حزب آخر لا تهاجم النهضة مثلهم فأنت باراشوك للنهضة . وإن كنت تنتمي إلى حوض إيديولوجيّ مغاير فأنت تعمل في أجندة النهضة . تسألهم: ما أجندة النهضة؟ يحيبونك بمكرور خطاب نُسج في أروقة مخابرات أنظمة انقلابية عسكرية مجرمة حكمت الشرق العربي فأغرقته في ظلمها وظلامها.. انظمة دكتاتوريّة اتّخذت من الدولة أداة دعاية لتمجيدها وتشويه معارضيها. ذهبت الأنظمة وبقي معارضوها تلاحقهم بقاياها بالتشويه.

نُقلت تقارير المخابرات إلى هنا لتذيعها عصبيات متهافتة هي أشبه ببقع "نجم" نابت عند حظيرة للدواب. أنت، في مسألة حركة النهضة، بين رأيين:

- رأي أبنائها وأنصارها والمتعاطفين معها، وهؤلاء يرون فيها هُويتهم الفكرية وترجمانهم السياسيّ، يحملون عليها كلّ أحلامهم وأشواقهم.

- رأي خصومها الذين برّحت بهم الخصومة حتّى جعلوا من أنفسهم أعداء لها... والعدوّ لا يرى استقامة في عدوّه ولا يتمنّى له غير الزوال لأنّ صراعه معه وجوديّ وليس فكريًّا ولا سياسيا.

فكيف نخرج برأي نتحرّى فيه الموضوعيّة فلا نسقط في الولاء المطلق الذي يجمّل كلّ شيء ولا في العداوة المحضة التي تشوّه كلّ شيء؟

النهضة إسلام سياسي؟

هذا الوسم وضعته جهات غربية مناوئة لكلّ تعبيرات الحياة في مجالنا العربي في سياق الحرب على التنظيمات الجهاديّة لمّا كانت تحتلّ مركز الصراع مع الدول الغربية في تسعينات القرن الماضي.

استُعمل هذا الوسم للحيلولة دون التنظيمات الإرهابية في المجال العربي عامة.. وهو وسم/ وصم يحمل معنى الإقصاء.. وتعبيرة من تعبيرات الحرب على الإرهاب. ويحمل في طياته دلالة مفادها أن الإسلام إذا امتزج بالسياسة كان إرهابا، ثم سُحب على كل التعبيرات السياسية التي ترى في الدين الإسلاميّ مرجعيتها.. وسحبُهُ على الجميع خطير لأنه يوشك أن يوصم به جميع المؤمنين بالدين الإسلامي الذين بقرؤون قرآنه.

الوسم يستبطن رؤية معينة للدين هي الرؤية اللائكية، وتحديدا الرؤية الفرنسية المتطرّفة التي لا تزال تحمل آثار شعار " اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسّيس" إبّان الثورة الفرنسيّة.

على أنّ هذا الشعار، على ما فيه من عنف، لا يحمل، في فهمي، عداء للدين في المطلق، بل للقساوسة الذين اختطفوا المسيحية ليجعلوها في خدمة الملوك المستبدّين.. أقول ذلك لأنّ الذهاب إلى إقصاء الدين استنادا إلى عبارة (القسّيس) يستتبع، بالضرورة، إقصاء السياسة ممثلة في عبارة (الملك)

السياسة ليست الملوك والدين ليس القساوسة. هنا نرى مغالطة كبرى يُرَدّ إليها الخطاب الذي يميل إلى إدانة الإسلام السياسيّ.

حركة النهضة إسلام سياسي؟

فليكن.

هل نحن، في تونس، ملزَمون بأن نمضيَ في إدانة الذين يعتبرون الدين الإسلامي مرجعَ أفكارهم ومستندَ مواقفهم؟

حركة النهضة تعتبر نفسها حزبا "مدنيا" ديمقراطيا يخوض السياسة باعتبارها تنافسا بين فرقاء يتنافسون خدمة الشعب الذي ينتمون إليه يرفع بصناديق الاقتراع من يشاء ويضع من يشاء استنادا إلى الخطاب إعدادا وإلى الأفعال إنجازا.

لماذا يضعون على النهضة "فيتو" كما لو أنها جسم غريب يُخشى منه على البدن الوطني؟ حجّة التونسة: لو تأملت مختلِف التعبيرات الحزبية والإييديولوجية في البلاد لوجدتها مستوردة كلّها.

• فالماركسيّ ليس تونسيا في تفكيره بل هو صدى لنصوص مترجَمة، غالبا، عن اللغة الفرنسية التي ترجمت، بدورها، أفكارا قادمة إليها من خارج المجال الفرنسيّ.

• والليبراليّ ليس تونسيا في تفكيره بل هو صدى لترجمات غربية غريبة عن التربة التونسيّة.

• والقومي العربي ليس تونسيا في تفكيره ولا في تعبيره لأنّ رأسه مصنوعة في أروقة مخابرات أنظمة سياسية عسكرية رفعت شعار القومية العربية فزالت القومية العربية بزوالها. إنّ حزبا سياسيا تونسيّا يضع صورة لحاكم عربيّ انقلابيّ في مكاتبه لأحرى بأن يُعَدّ غير تونسيّ.

النهضة تتحرّك في حوض فكريّ لا فرق فيه بين سيد قطب المصريّ والفاضل بن عاشور التونسيّ. وعلاقتها بجماعة الإخوان المسلمين المصرية أشبه بالعلاقة التي بين جامع الأزهر وجامع الزيتونة. تفكير يعود إلى مرجعية دينية واحدة، ولكنه محمول على مراعاة الخصوصيات القطرية وما تختلف فيه الشعوب من ثقافة وطباع وتقاليد. ولعلّ جماهيرية النهضة موصولة بذلك.

ثمّ إنّ حكم الخصم على خصمه ليس إنصافا ولا عدلا. لذلك كانت الديمقراطية لحسم الخلافات بين الفرقاء. حين يتواضع الشعب على دستور فهو يحتكم إليه ويردّ الخلافات إليه. أمّا النخب فليس لها أن تتحوّل إلى حكّام والحال أنّها من الخصوم.

الخلاصة:

في تونس لا يمكن أن تقوم ديمقراطية إلّا بمشاركة حركة النهضة لأمرين اثنين:

الأوّل: أنّها التنظيم الذي يصحّ تسميته حزبا في ديمقراطيةٍ الأحزابُ قاعدتُها.. وكلّ إقصاء لها إنّما هو إفساد لكلّ إمكان للديمقراطية في البلاد.

كونها حزبا متديّنا ليس مشكلتها، بل مشكلة خصومها الذين يتاجرون بالدين، وحين يفشلون في تجارتهم يصمونها بالمتاجرة به ولو أنّهم استطاعوا منافستها في تجارتها لما استنكفوا وهو المتاجرون بكلّ شيء.

الثاني: أنّ خطابها ديمقراطيّ صميم. لا تكاد تجد قياديا في حركة النهضة لا يعترف بالاختلاف ولا يؤمن بالتعدّد. النهضة مستفيدة من الديمقراطية لأنها قادرة على المنافسة فيها. وكون الآخرين عاجزين عن المنافسة فتلك مشكلتهم وليست مشكلة النهضة.

إنّ مثل هؤلاء الذين ينادون بإقصاء حركة النهضة من المشهد السياسيّ تحت أيّ ذريعة لهم أشبهُ بالذي يشترط على الفيفا إقصاء فريق البرازيل مثلا من خوض نهائيات كأس العالم لأنّه أكبر المرشّحين حظّا للفوز بها.

الديمقراطية لعبة سياسية تحمي البلد من الويلات.. والديمقراطية لا تقبل أن يدخل إليها أحد بشروط من خارجها.

Commentaires - تعليقات
مراد البعقوبي
15/01/2023 23:13
بارك الله فيك يا أستاذ ووفقك. انت صوت واضح جلي وجريء في الدفاع عن الحريات.