الإدارة التونسيّة وفشل الحكومات المتعاقبة

Photo

ليتني كنتُ حطّابا فأهوي على الجذع بفأسي

(أبو القاسم الشّابي)

من "الأفكار" التي وقع التسويق لها بعد الثورة بشدّة تصل حدّ القرع المملّ والمصدّع للآذان، "فكرة" مفادها أنّ إحدى مكاسب الدولة في تونس.. والدولة لم تسقط بعد الثورة.. إحدى المكاسب الكبرى هي الإدارة التونسيّة وما أدراك ما الإدارة..

"تلك الإدارة المجسّدة للدولة تواصلت، ولم ينقطع نسق عملها.. وعلامة ذلك أنّ منظومة الأجور لم تُصبْ بخلل يُذكر خلال الثورة وبعدها"..

ولكن من سوّق لهذه الفكرة؟ طبعا، وبدون أدنى شكّ هم كلّ من قامت الثورة ضدّهم وهم ما اصطلح على تسميتهم بالمنظومة القديمة.. إضافة إلى القوى "الإصلاحية" (أي اللاثورية) من أحزاب ومنظمات نقابية و"مدنيّة".. ذاك هو حلف الردّة مجتمعا، وهو الذي صاغ الخطوط العريضة لتراجيديا السنوات التي تلت 14 جانفي 2011..

لقد كانت مصلحة هؤلاء جميعا تقتضي المحافظة على القوالب القديمة، كما هي، والتعامل معها بدُونيّة "الضحيّة السابقة"، فما كان منهم إلاّ أن ينصهروا فيها..

الحقّ يقال أنّ مأساة البلاد الأولى هي "الإدارة" التي صدّعوا آذان الناس بذكر محاسنها، وبحمد فضائلها..

الإدارة التونسيّة، بمختلف مستوياتها، هي التي كان من الأولى تفكيكها وإعادة صياغتها على أساس فلسفة جديدة تُعطَى من خلالها للدولة روح جديدة.. ما دخل الفلسفة هنا؟

كلّ الإدارات والأنساق التنظيمية للدول ولغيرها من الهياكل (كالأحزاب والنقابات مثلا)، تقوم على فلسفات ورؤى خاصّة بها، تتعلّق أساسا بما تسعى تلك الدول وتلك الهياكل إلى إرسائه وإلى الوصول إليه من مُخْرجات.. ونحن في تونس، ورثنا إدارتنا بفلسفتها وبمفاصلها من إدارة "كولونياليّة" لدولة هي أصلا "يعقوبيّة".. فامتزجت فيها المركزيّة القُصْوى بالقمع والتسلّط وبسط النفوذ على البلاد وعلى التراب.. وحينما وقعت "تونسَة الإدارة" بعد الإستقلال، لم تكن تلك التونسَة إلاّ نقلا إجرائيا "للبضاعة" من "بول وجاك" إلى "صالح وعلي".. مع الحفاظ طبعا على الفلسفة العامّة لهذا الشيء الموروث.. قُلْتُ "حفاظا"، وهذا كلام غير دقيق، إذْ يا ليتهم حافظوا على كلّ شيء أخذوه من الإدارة الكولونياليّة! لقدْ أسقطتْ "التونسة" ما كان في تلك الإدارة من إيجابيات كالجدّية والعقلانيّة واحترام المواعيد، وأدْخَلتْ عليها أتعسَ ما فينا، كالرشورة والمحسوبيّة والجهويّة والوشاية وعقليّة "رزق البيليك" وما يتبعها من تقاعس ونهب للمال العام..

هذا جانب من التعامل مع "تِرْكَة" الإدارة.. أمّ الجانب الآخر والأخطر.. فهو أنّ "التونسة" ارتبطت أيضا بانزلاق البلاد، بنسق سريع، نحو دولة قوامها الإستبداد والفساد.. وتكريس الاستبداد والفساد كانت الإدارة التونسيّة أداته الأولى بامتياز..

هذا الماضي الأسود، لهذا الأخطبوط الجاثم على البلاد بكلاكله، لا يمكن مسحه بتعليق أطر وبراويز مذهّبة في مداخل كلّ المؤسسات الإداريّة، كتب عليها الشعار الجميل: "الإدارة في خدمة المواطن".. هذا الشعار مضحك إلى حدّ الغثيان.. وأوّل الضاحكين هو المواطن المسكين، وهو واقف تحت البرواز، يعاني من نوبات ضغط الدمّ والسكّري من "الغلبْة" والقهْر..

استمراريّة الإدارة.. والإدارة هنا هي التي ينطبق عليها بحقّ مصطلح "الدولة العميقة".. "استمراريّة الإدارة"، هي التي جعلت من حكومات ما بعد الثورة جميعها تتخبط خبط عشواء لا تقوى على أخذ القرارات اللازمة.. وحتّى حينما أخذت تلك القرارات لم تنجح في تنفيذها.. ظنّ الجميع بأنهم حينما مسكوا البرلمان ومسكوا الوزارات..مسكوا الدولة.. هيهات..

مأساة تونس تكمن في مرض دولتها.. وداء دولتها يكمن في إدارتها..

ولذلك أعيد وأكرّر بأن لا مخرج للبلاد من هذا المأزق إلاّ بتفكيك الإدارة وإعادة صياغة فلسفتها العامّة..

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات