هل فعلا تغافل القاضي البشير العكرمي عن استغلال المعطيات المخزنة في حاسوب الارهابي احمد الرويسي؟

الحلقة الثالثة والاخيرة من التهم التي كالها المتفقد العام للقاضي البشير العكرمي في إطار تعهده بالتحقيق في جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد، بصفته قاضي تحقيق اول بالمكتب 13، هي اتهامه بعدم السعي الى استغلال المعطيات المخزنة بالحاسوب التابع للمدعو احمد الرويسي والذي تم حجزه في إطار قضية تحقيقية اخرى من أنظار قاضي التحقيق بالمكتب الثالث، بعد ان تمكنت قوات الأمن من مداهمة وكر ارهابي في مدينة بالجنوب التونسي والعثور على ذلك الحاسوب وحجزه. وبما ان الوكر كان تابعا لشخص يدعى ج.ح. فقد سارت الأبحاث في البداية في إطار القضية التحقيقية بالمكتب الثالث (ليست من أنظار البشير العكرمي) باعتبار ذلك الحاسوب تابعا لصاحب المنزل المدعو ج.ح. فاطلق عليه قاضي التحقيق المتعهد تسمية "حاسوب ج.ح.".

كان الحاسوب من نوع HP PAVILION G6 تم فورا وبتاريخ 18 جانفي 2013، تعهيد إدارة العمليات الفنية بوزارة الداخلية، وهي إدارة على درجة عالية جدا من الحرفية والكفاءة المشهود بها عالميا، وذلك من قبل قاضي التحقيق بالمكتب 3، قصد اجراء اختبارات فنية على الحاسوب، وعلى وحدة التخزين وعلى عدد 4 أقراص ليزرية وخازن معلومات صغير الحجم ووحدة تخزين خارجية نوع LG تحمل رقما تسلسليا مدونا في مأمورية الاختبار.... وفعلا فبتاريخ 21 جانفي 2013 وردت نتيجة الاختبار مفصلة وموضحة للمعطيات المخزنة في ذلك الحاسوب وفي الأقراص الليزرية وخازن المعلومات، وقد ورد التقرير مفصلا في خمس صفحات كاملة.

اول الاكتشافات التي استخلصها القضاء ان ذلك الحاسوب، وان كان وجد في منزل المدعو ج.ح. فقد اتضح بما لا يدعو مجالا للشك انه تابع للمدعو احمد الرويسي، ومن هنا شاع الحديث عن حاسوب احمد الرويسي وليس حاسوب ج.ح.

كل هذا حصل قبل الجريمة الإرهابية التي اودت بحياة الشهيد شكري بلعيد رحمه الله.

زعم السيد المتفقد العام في تقريره ان البشير العكرمي لم يسع الى استغلال المعطيات المخزّنة بذلك الحاسوب، مما حال دون ذلك لاحقا لوقوع سرقته من خزينة المحكمة الابتدائية بتونس.!!!

اذن نحن امام معطيين مهمين:

1- حاسوب به معطيات مهمة ذات علاقة بالإرهاب، واتضح انه حاسوب يتبع ارهابيا متورطا في جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد، التي تعهد بها القاضي البشير العكرمي، وفي جريمة اغتيال الشهيد محمد البراهمي التي تعهد بها قاضي التحقيق بالمكتب 12. هذا الحاسوب تمت سرقته من خزينة المحكمة الابتدائية بتونس، بعد ان سبق للشرطة الفنية ان استخرجت منه كل المعطيات المخزنة به في تقرير بخمس صفحات.

2- المتفقد العام يجزم بأن قاضي التحقيق البشير العكرمي لم يسع الى استغلال المعطيات المخزنة بالحاسوب. وبما انه تعرّض للسرقة الان، فقد بات من المستحيل معرفة المعطيات المخزنة به.

الرأي العام تم توجيهه الى التوقف عند المعطى الثاني، فصدّق اكذوبة ان البشير العكرمي لم يستغل المعطيات المخزنة في الحاسوب. هذا كذب بواح، يمكن تفنيده بسهولة تامة، من خلال الاطلاع على الصفحتين 418 و419 من قرار ختم البحث الذي اعده البشير العكرمي بخصوص قضية الشهيد شكري بلعيد، لنجد تنصيصا صريحا على الاطلاع على نتيجة الاختبار المفصل لكل المعطيات المخزنة في الحاسوب وتوابعه، وعلى اضافة نسخ منها ضمن أوراق القضية التحقيقية، مع التحقيق مع كل شخص قد تكون له صلة بأحمد الرويسي، كإضافة نسخ من الوثائق المحجوزة، أبرزها مراسلة موجهة من أحمد الرويسي الى والدته، ووثيقة مسلّمة من جماعات ارهابية مسلحة معلومة الاسم بإحدى مناطق ليبيا، وتصريح بالخروج مسلّم لأحمد الرويسي من تلك الجماعة، ووثيقة معنونة "الأمم المتحدة!!!" وتتضمّن هويّة المظنون فيه م.ع. باللغة العربية واللغة الفرنسية ...

كل هذه الوثائق مع تقرير الاختبار المشار إليه مضمنة تحت عدد 63/13 بأوراق القضية التحقيقية التي باشرها السيد البشير العكرمي. ولكن المتفقد العام رأى خلاف ذلك وزعم انه لم يسع الى استغلال المعطيات المخزّنة بحاسوب احمد الرويسي الى ان استحال ذلك بسبب سرقته لاحقا... بينما المصيبة الحقيقية المتمثلة في التسيّب الذي أدّى إلى سرقة عدد من المحجوزات من خزينة المحكمة، من بينها الحاسوب المشار إليه، بقيت دون تغطية اعلامية كبيرة.

فقد تورّط احد الموظفين بالمحكمة، في ارتكاب سلسلة من السرقات من خزائن المحجوز بمقر المحكمة الابتدائية بتونس، امتدت من النصف الثاني من عام 2013 الى ديسمبر 2016 تاريخ إلقاء القبض عليه، مثلما ورد ذلك في تقرير السيدة رئيسة الكتبة بهذه المحكمة المؤرخ في 24 جانفي 2017، وقد علقت بذلك الشخص 9 قضايا تحقيقية تخصّ ما سرقه من خزينة المحكمة طوال الفترة المشار اليها. هذه المصيبة الحقيقية اذن مرّ عليها الرأي العام مرور الكرام، فلم تحظ بتغطيات اعلامية تذكر ولا تناولها المحللون في بلاتوهات الحوارات التلفزية او الإذاعية، فلا أحد اهتم بكارثة التسيب في ضبط وحوكمة التصرّف في خزائن المحجوزات بالمحكمة...

ربما في تقديري ان العقلية السائدة تعوّدت على ان نحتفظ في خزائن المحجوزات بأدوات جريمة غير ثمينة ولا تسيل لعاب الطامعين، كقضيب حديدي، او سكين، او ملابس، او حقيبة بالية ،أو كتب ومنشورات... ولم يتعوّد القضاء على حجز الآلات الإلكترونية باهضة الثمن والحواسيب المثيرة لشهية الطامعين، فواصل المشرفون على حفظ وضبط غرفة المحجوزات التعامل معها بأسلوب تقليدي متخلّف، مستبعدين من مخيلتهم اتجاه طمع بعض المجرمين الى السطو عليها ونهبها.

ما يهمّنا في هذه المسألة الان أن السيد المتفقد العام كشف انه اعد تقريره دون تمعّن في الاعمال التي أجراها السيد البشير العكرمي، ودون اطلاع على قرار ختم البحث ذي الخمسمائة صفحة، ولا على علب الأرشيف المتضمنة للوثائق والمحاضر والاختبارات وعددها 13 علبة boîte d'archives. وليس مستبعدا انه لم يهتم بتقرير الاختبار ذي الخمس صفحات المتعلق بالحاسوب والمظروف بأوراق القضية لأنه يحمل عنوان حاسوب ج.ح. وليس حاسوب احمد الرويسي، فذلك الاختبار أنجز في جانفي 2013 ولم يتم الاهتداء الى معرفة صلة ذلك الحاسوب باحمد الرويسي الا بعد تفحص نتيجة الاختبار وما احتوته من معطيات مهمة وثمينة.

السيد المتفقد العام اعد تقريره في هذه النقطة دون ان يكلف نفسه عناء مساءلة البشير العكرمي عما اذا سعى الى استغلال المعطيات المخزنة بحاسوب احمد الرويسي ام لا، وهو ابسط اجراء موكول للمتفقد القيام به: مساءلة الشخص موضوع التفقد عن كل نقطة يشتبه أن فيها تقصيرا او جريمة مرتكبة منه.

السيد المتفقد العام ايضا رفض الاطلاع على تقرير التفقد السابق، وامتنع عن اضافته الى تقريره بالرغم من الطلب الموجه اليه من مجلس القضاء العدلي الذي أمره بذلك بموجب قرار تحضيري صريح، وهو تقرير تم اجراؤه بإذن من وزير العدل الأسبق السيد محمد الصالح بن عيسى خلال صائفة 2015 حول هذه النقطة بالذات، والذي انتهى بنفي اي تقصير منسوب الى السيد البشير العكرمي في هذا المجال.

وقد قدم البشير العكرمي في إطار دفاعه امام مجلس القضاء العدلي نسخة من قرار ختم البحث (الصفحة 419) المتضمنة عرضا لترتيب الأثر القانوني على عملية الاطلاع على المعطيات المخزنة بالحاسوب، وقدم نسخة من الاختبار المجرى على الحاسوب، ونسخة من مكتوب السيدة رئيسة المحكمة الابتدائية بتونس ومن مكتوب السيدة رئيسة الكتبة بخصوص ملابسات سرقة غرفة المخزونات بالمحكمة ونسخة من عدد القضايا التحقيقية المسجلة بالمحكمة الابتدائية بخصوص السرقات التي طالت المحجوز …

لم يجد المتفقد العام من تهمة يكيلها للبشير العكرمي سوى أن اعتبره مقصرا في السعي الى استغلال المعطيات المخزنة بالحاسوب …

يا سيدي الكريم كل المعطيات تم استغلالها احسن استغلال... فالحاسوب اصلا كان منسوبا الى المدعو ج.ح. الذي وجدوه في منزله، وما نسبة الحاسوب الى احمد الرويسي الا بعد الكشف عن المعلومات المخزنة فيه، والتي اتضح انها تخص احمد الرويسي، فأصبح الاخير ضمن المشتبه فيهم، والا لبقي بعيدا عن الشبهات. كيف لم يستغل البشير العكرمي المعطيات المخزنة بالحاسوب وهو قد اضاف نسخة من الاختبار الفني على ذلك الحاسوب ومرفقاته بملف القضية التي يباشر التحقيق فيها،!؟ وتولى سماع والدة احمد الرويسي لاستفسارها بشأن الرسالة التي بعثها اليها ابنها احمد الرويسي التي كانت مخزنة في الحاسوب... ؟؟؟ اي استغلال اخر للمعلومات كان عليه ان يقوم به وتهاون فيه!؟

في اواخر عام 2016، وبعد أن غادر البشير العكرمي مكتب التحقيق 13 ليصبح وكيلا للجمهورية، أمرت دائرة الاتهام قاضي التحقيق بالمكتب 13 الذي خلف البشير العكرمي، بإعادة اجراء اختبار فني على جهاز الحاسوب المشار إليه، للتحقق ان كان تعرض لعملية فسخ واعادة خزن لمعلومات مغلوطة ام لا، وذلك بناء على طلب من الزملاء الافاضل هيئة الدفاع عن الشهيد شكري بلعيد. وهنا تعذر انجاز المطلوب بسبب سرقة الحاسوب. ما ذنب البشير العكرمي في هذا؟ هل تم اتهامه بالتورط في سرقة الحاسوب؟ قطعا لا !!!

فهذا اتهام لم يلمح إليه اي طرف من قريب أو بعيد، فضلا عن ان الحاسوب كان محجوزا على ذمة قضية اخرى من أنظار قاضي تحقيق اخر (التحقيق 3)، والمجرم الذي تورط في السرقة تم القبض عليه وهو موقوف الان ويحاكم من اجل قضايا سرقة موصوفة من بينها سرقة الحاسوب، ولم يرشح من تلك الابحاث والقضايا اي علاقة من قريب أو بعيد للبشير العكرمي او لطرف سياسي او قضائي او أمني في تلك السرقات.

طلب اعادة الاختبار للتحقق فيما اذا حصلت عملية فسخ واعادة خزن formatage صدر اواخر 2016. اي بعد انتقال البشير العكرمي لخطة قضائية جديدة. ومع ذلك فمن باب الجدل القانوني لو افترضنا ان ذلك الحاسوب قد يكون تعرض لعملية فسخ واعادة خزن، فهل كانت الشرطة الفنية التي اجرت عليه الاختبار في جانفي 2013 لتتغاضى عن ذلك، وهي التي تتمتع بكفاءة عالية؟ ولو سلمنا جدلا بأن الشرطة الفنية تغاضت عن ذلك، ولم تجر اختبارا معمقا شمل هذه النقطة، فلماذا لم تنتبه النيابة العمومية للأمر وتطالب بإجراء اختبار تكميلي؟ ولماذا لم يطالب قاضي التحقيق بالمكتب الثالث بإجراء هذا الاختبار التكميلي، وهو الذي حجز الحاسوب في إطار القضية التي يحقق فيها، وذلك حينما كان الحاسوب مازال بيد العدالة؟ بل قبل حتى حصول جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد وتعهد البشير العكرمي بملفه!؟ ولماذا لم يطالب مكتب التحقيق 12 المتعهد بملف الشهيد محمد البراهمي بذلك؟، أليست المعطيات المخزنة بذلك الحاسوب مفيدة لوجه الفصل في جريمة اغتيال الشهيد البراهمي!!؟

وانما استعرضنا هذه الفرضيات المنطقية للدلالة على ان اي تقصير قد ينسب الى البشير العكرمي في هذا المجال، من باب الجدل القانوني لا غير، يكون من باب اولى واحرى ان يدين قبله قاضي التحقيق بالمكتب الثالث والنيابة العمومية المتابعة لكل من قضية التحقيق 3 والتحقيق 13، وحتى التحقيق 12 الذي تعهد لاحقا بقضية اغتيال الشهيد البراهمي، فكل هؤلاء لم يطالبوا بإجراء اختبار تكميلي لمعرفة ما قد توجد من معطيات خفية مفسوخة من ذاكرة حاسوب احمد الرويسي، ويفترض ايضا ان تدين قضاة دائرة الاتهام الذين نظروا في قضايا التحقيق بالمكتب 3 والمكتب 13 والمكتب 12 والذين لم يطلبوا اجراء هذا الاختبار التكميلي الا اواخر عام 2016 ليجدوا ان الحاسوب قد سرق!!!!

اذن وبصرف النظر عن أهمية نتيجة ذلك الاختبار التكميلي من عدمها، والنتيجة المحتملة التي كان ليصل اليها لو لم تقع سرقة الحاسوب، فإن اي تقصير يوجه للسيد البشير العكرمي في عدم اجرائه اختبارا تكميليا في ذلك المعنى يؤدي بالضرورة الى إدانة كل القضاة الآخرين المبينين أعلاه بالتقصير نفسه، فكيف نتهم بشير العكرمي فقط ونهمل البقية، ان لم يكن ذلك تحاملا مفضوحا على البشير العكرمي....

لعله لهذا السبب صاغ المتفقد العام اتهامه للعكرمي بشيء من الاقتضاب والغموض بخصوص هذه النقطة فكتب حرفيا:"... وكذلك بخصوص جهاز الحاسوب التابع لأحمد الرويسي المتهم الرئيسي في اغتيال الشهيد شكري بلعيد وعدم سعيه الى استغلال المعطيات المخزنة به مما حال دون ذلك لاحقا لوقوع سرقته من خزينة المحكمة الابتدائية بتونس".

فوجه المؤاخذة هنا منحصر في عدم السعي الى استغلال المعطيات المخزنة به... وهذا فنّدناه بالحجة الناصعة، اذ أنّ استغلال المعطيات قد تمّ بكفاءة واقتدار، ولا وجود لاي اجراء اخر يمكن القيام به، وتمّ التخاذل في اجرائه... امّا بخصوص ما قد كان ليظهر من معطيات مفسوخة من ذاكرة الحاسوب، ففضلا عن انه أمر احتمالي غير مؤكد، فهو قد طرح بعد مغادرة العكرمي لمكتب التحقيق 13 وتعيين قاضي تحقيق اول جديد مكانه. مما يجعل العكرمي غير معني به، أما خلال فترة تعهد العكرمي بالملف بصفته قاضي تحقيق اول بالمكتب 13، فإن كلا من قاضي التحقيق بالمكتب 3 وقاضي التحقيق بالمكتب 12 اكتفيا مثل زميلهما البشير العكرمي بنتيجة الاختبار الذي أجرته إدارة الشرطة الفنية ذات الكفاءة والحنكة والمهنية ولم ينعوا على ذلك الاختبار اي نقص، فإذا كان تقديرهم خاطئا وموجبا للمؤاخذة التأديبية، من باب الجدل القانوني لا غير، أَفَنَنْتَقِي منهم البشير العكرمي فقط ونذر الباقين دون أي لوم او تثريب!؟؟؟ .

كيف فهم المتفقد العام مصطلح "الحجز الصوري" للسيارة المستعملة في ارتكاب جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد واعتبر قاضي التحقيق مقصرا في ذلك بما يبرر تتبعه تأديبيا؟

المآخذ التي ساقها السيد المتفقد العام ضد السيد البشير العكرمي بوصفه قاضي تحقيق سابق بخصوص تعامله مع ملف اغتيال الشهيد شكري بلعيد رحمه الله انحصرت في ثلاث مسائل فقط:

أولا: موضوع المسدسين اللذين يشتبه ان المدعو ع.ب. اخفاهما، وهو ما اوضحته في تدوينة سابقة.

ثانيا: السيارة التي استعملت في ارتكاب الجريمة، والتي رأى السيد المتفقد العام أن قاضي التحقيق أخطأ وقصّر بما يوجب تتبعه تأديبيا من ثلاثة اوجه:


أ: أجرى مجرد حجز صوري للسيارة رغم حجزها فعليا من الباحث المناب.

ب: لم يضف نتيجة الاختبارات الفنية المجراة على السيارة.

ج: لم يواجه المتهمين بنتيجة تلك الاختبارات.

ثالثا: عدم استغلال المعطيات المخزّنة في جهاز الحاسوب التابع لأحمد الرويسي مما حال دون ذلك لاحقا لوقوع سرقته من خزينة المحكمة، والذي سنعرض ردود القاضي البشير العكرمي المفندة لذلك في تدوينة لاحقة مستقلة.

رأى السيد المتفقد العام في تقريره انه اعتبارا لجملة النقائص الإخلالات المفصلة أعلاه مجتمعة، فإنه يتجه تحريك المساءلة التأديبية في جانب السيد البشير العكرمي في هذا الصدد(نقل حرفي من خلاصة تقرير السيد المتفقد العام).

فهل فعلا بلغ الجنون والتحدي بقاضي تحقيق متعهد بقضية ارهابية خطيرة، يتابعها الرأي العام المحلي والدولي بكل انتباه ويقظة.... قاضي تحقيق، ولئن كان مستقلا في اعماله الاستقرائية واجتهاداته الا انه يعمل تحت أنظار النيابة العمومية التي تطلع على كل اجراء او قرار يقوم به، ويمكنها بمعية بقية الاطراف في القضية: قائمين بالحق الشخصي ومتهمين، الطعن فيها لدى دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف والتي لها ولاية مطلقة على أعمال قاضي التحقيق فيمكنها نقضها او طلب مراجعتها او الحلول محل قاضي التحقيق لاصدار البطاقات او القرارات اللازمة... فهل بلغ الجنون اذن بهذا القاضي، في ظل هذا التنظيم الهرمي للهيئات القضائية، ان يقوم بعمل متهور تحت أنظار الجميع، فيتراخى في حجز السيارة حجزا فعليا ويكتفي بحجزها صوريا!؟

قبل ان نجيب عن هذا التساؤل المشروع، جدير بنا التذكير ان اجراءات حجز السيارة المعنية مثلت طعنا لدى دائرة الاتهام من قبل ممثلي القائمين بالحق الشخصي، وقد اصدرت دائرة الاتهام قرارا في الملف عدد 92483/9 بتاريخ 4 جوان 2014، جاء في حيثياته حرفيا ما يلي:"وحيث انه لا وجود لما يفيد إرجاع السيارات المحجوزة الى أصحابها وكان محضر الحجز الصوري طبق القانون".

نفس هذا الموقف القانوني ايدته محكمة التعقيب في قرارها الذي ضم جملة من المطاعن في قرار دائرة الاتهام المبين أعلاه، وصدر عن محكمة التعقيب بتاريخ 16 افريل 2015 تحت عدد 19544/19542/19343/19165، والذي تبنى الموقف نفسه من شرعية محضر الحجز الصوري والذي كان طبق القانون. فهل يعقل بعد كل هذا ان يأتي المتفقد العام ويوجّه تهمة التقصير الموجبة للتتبع ضد قاضي التحقيق لانه حجز السيارة حجزا صوريا، وهو الاجراء الذي ايدته فيه دائرة الاتهام ومحكمة التعقيب!؟

هذه الملاحظة طبعا موجهة لأهل الاختصاص، فهم يدركون جيدا ان اجراءً اتخذه قاضي تحقيق (درجة اولى) ايّدته فيه دائرة الاتهام (درجة ثانية) وأيّدته فيه محكمة التعقيب (درجة عليا) لا يليق اعادة طرحه من جديد، والإصرار على أنه لا فقط مجانب للصواب، بل موجب لتتبّع القاضي الذي اتّخذه. لكنّ من حقّ كل مواطن ان يتساءل عن وجاهة الحجز الصوري، ما المقصود به؟ هل هو حجز وهمي، قائم على الخداع والتضليل؟ من حق الشعب التونسي ان يغتاظ ويشتعل حنقا على قاضي تحقيق تساهل في حجز السيارة المستعملة لاغتيال شهيد الوطن المرحوم شكري بلعيد، بما قد يؤدي إلى اخفائها او إعادتها الى اصحابها!؟ لكن مهلا سادتي الكرام! السيارة فيات المقصودة محجوزة فعليا من الباحث المناب، مع سيارتين اخريين، اي انها محجوزة فعلا من الفرقة الأمنية التي اجرت الأبحاث، بانابة من القاضي البشير العكرمي وتحت رقابته، وهي مؤمّنة بفندق الحجز (منصوص على اسم فندق الحجز وعنوانه في اوراق البحث) ومضمّن رقم حجزها الفعلي وعدد المحضر في أوراق القضية. فأين الاشكال اذن؟

بالعودة الى حيثيات قرار دائرة الاتهام المستدل به اعلاه، يمكننا ان نستشف من ردّ الدائرة على الطاعنين لما ذكرت حرفيا أنه لا وجود لما يفيد إرجاع السيارات المحجوزة الى اصحابها، أنه ربما هناك من اشتبه عليه الامر، فظنّ ان محضر الحجز الصوري الذي اجراه قاضي التحقيق بناء على الحجز الفعلي للباحث المناب، هو حجز وهمي يجيز ابقاء المحجوز بيد صاحبه، وهذا ما فنّدته دائرة الاتهام ...

هذا الطعن كان مشروعا ومنطقيا من الزملاء المحترمين نائبي القائمين بالحق الشخصي في قضية اغتيال الشهيد شكري بلعيد، فمن حقهم ان يتثبتوا من وجود حجز فعلي للسيارة والتيقّن من عدم التفريط فيها أو ارجاعها لاصحابها، ولكن يفترض ان قرار دائرة الاتهام ومن بعدها محكمة التعقيب قد حسما في الامر وأنهيا الالتباس... السيارة فعلا محجوزة ولم يقع ارجاعها الى اصحابها ... هذا الامر حسم منذ عام 2015، فبأي منطق يأتي المتفقد العام ليتمسك بأن قاضي التحقيق أخطأ لما حجز السيارة فيات حجزا صوريا!؟ وهو خطأ موجب للتأديب!!!!

المواطن العادي معذور لما يتم التغرير به وخاصة باستعمال لغة قانونية غير متعود عليها او تجعله يستحضر مفاهيم دارجة غير دقيقة، فالإجراء الصوري في مخيلة العوام هو اجراء وهمي وغير ذي جدوى. فما معنى ان يجري قاضي التحقيق حجزا صوريا للسيارة التي سبق للباحث المناب من ذلك القاضي ان حجزها فعليا في فندق الحجز العمومي وضمّن ذلك في محضر بإنابة من قاضي التحقيق وبعلمه.؟

يرى الوافدون على المحاكم كل صباح اعوان الضابطة العدلية يدخلون مكاتب النيابة او التحقيق بملفات محاضر معها المحجوز الذي يكون عادة معدات، او وسائل، او أسلحة، او آلات استعملت في الجريمة، فيتم تسليمها للنيابة او لقاضي التحقيق المتعهد الذي يقوم بحجزها حجزا فعليا، اي ان يتسلمها من الباحث ويضمّنها في محضر المحجوزات ويودعها بغرفة المحجوزات بالمحكمة... هذا يسمى حجزا فعليا، لكن إذا كان المحجوز سيارة او شاحنة او اي آلة كبيرة الحجم، فكيف يتسنى حجزها فعليا وايداعها في غرفة المحجوزات بالمحكمة!؟

ماذا يفعل قاضي التحقيق في هذه الحالة، يقوم بحجز صوري مؤسس على الحجز الفعلي الذي يفترض ان الباحث الابتدائي اجراه في احد مراكز الحجز العمومية وتحت سلطة وحماية ورقابة اجهزة الدولة ذات النظر، ويكون الحجز من قبل قاضي التحقيق هنا صوريا، لأنه تم تضمينه في دفاتر المحكمة نظريا، لكن فعليا فهو ليس محجوزا داخل المحكمة، بل في مكان عمومي آخر، ويبقى تحت ذمة العدالة يتم الفصل فيه ضمن الحكم القضائي الذي ستصدره المحكمة لاحقا.... هذا بالضبط موضوع الحجز الصوري الذي آثار حفيظة المتفقد العام وضمنه في تقريره واعتبره موجبا للتتبع، رغم تأكيد كل الهيئات القضائية التي تراقب عمل قاضي التحقيق انه كان حجزا طبق القانون لا تشوبه شائبة!!

حقيق بالشعب التونسي ان يتساءل قبل ان يقع فريسة التضليل، كيف تم العثور على هذه السيارة التي استعملت في تنفيذ جريمة الاغتيال الغادرة والجبانة لتصفية شهيد عزيز على كل وطني غيور على وطنه؟ هل تم العثور على السيارة مصادفة!؟ كانت عملية تحديد ملامح السيارة وضبطها تتطلب حنكة كبيرة، وبفضل عبقرية علمية وفنية بالغة تحلت بها الفرق الأمنية التي اشتغلت بإمرة وانابة من قاضي التحقيق الاول بالمكتب 13، تم تجنيد طاقات بشرية واستعمال تقنيات علمية بالغة التقدم، لكشف الجرائم الإرهابية بعيدا عن الأساليب التقليدية البالية القائمة على استخراج المعلومات غصبا بالعنف والتعذيب، بما يؤدي إلى الحصول على معطيات مغلوطة ومشوهة، تضلل العدالة وتمكّن الجناة الحقيقيين من البقاء بعيدا عن دائرة الشبهات.

السيد المتفقد العام اضاف أيضا ان قاضي التحقيق البشير العكرمي لم يقم بإضافة نتيجة الاختبارات الفنية التي أجرتها الادارة الفرعية للمخابر الجنائية والعلمية!!! اي قول غريب هذا!؟ أيعقل ان يسخّر قاضي التحقيق احدى ابرز الفرق الأمنية العلمية لإجراء اختبار بيولوجي على السيارة المحجوزة وبيان ما علق بها من آثار باستخدام تقنية البصمة الوراثية ADN، ويتم انجاز الاختبار تحت أنظار الجميع: نيابة عمومية ومحامين من هذا الطرف وذلك، ثم يتجرّأ هذا القاضي على عدم اضافة ذلك الاختبار لملف القضية ويتجاهله؟ والنيابة العمومية المتابعة للملف تغط في سبات عميق!!!، ودائرة الاتهام تسكت!!!، ومحكمة التعقيب من بعدها تسكت!

السيد البشير العكرمي أجاب على تقرير المتفقد العام بدهشة وصدمة بالغة: انت يا سيدي تدعي أنني لم أضف نتيجة الاختبار إلى الملف ... واضح انك للأسف لم تطلع على قرار ختم البحث في القضية التحقيقية عدد 26427 ذي الخمسمائة صفحة، ولا على قرار ختم البحث في القضية عدد 26427 مكرر المفككة لمصلحة البحث والذي يناهز ايضا الخمسمائة صفحة، ولم تطلع على صناديق الأرشيف التابعة لقضية الشهيد بلعيد وعددها 13 صندوقا تؤرخ وتوثق لكل الاعمال التحقيقية التي اجريت، لو اطلعت حقا عليها وانت الذي أنجزت تقريرك في حيز زمني قصير لا يمكّنك ماديا من الإحاطة بكل جوانب القضية، فلو اطلعت حقا على قرار ختم البحث لوجدت ان الإشارة الى الاختبار البيولوجي على السيارة منصوص عليه، وان أوراق القضية تتضمن فعلا ورود نتيجة ذلك الاختبار عددا وتاريخا.

فهل نحتاج إلى الاختلاف حول هذه المسألة المادية التي يمكن معاينتها بسهولة لنعرف ان كانت نتيجة الاختبار البيولوجي مضافة ام لا لملف القضية؟

واخيرا رأى السيد المتفقد العام أن قاضي التحقيق، وبعد أن سلمت كل اعماله في هذه القضية من كل طعن قضائي وتأيدت اعماله من دائرة الاتهام ومن محكمة التعقيب، رأى السيد المتفقد العام بعد سبع سنوات من ختم البحث، ان قاضي التحقيق لم يعرض نتيجة الاختبار المتعلق بالبصمة الوراثية على المتهمين لمواجهتهم بها!!!؟ غريب، كيف ينتصب المتفقد العام سلطة عليا فوق محكمة التعقيب ليوجب على قاضي التحقيق عرض نتيجة الاختبار البيولوجي للسيارة المحجوزة على المتهمين!؟ باي منطق قانوني يجزم السيد المتفقد العام بفرض هذا الاجراء واعتبار ان عدم اجرائه موجب للتتبع ضد قاضي التحقيق فقط، وليس ضد كل القضاة الذين لهم سلطة ولائية على أعمال قاضي التحقيق !؟ منذ متى يتم عرض نتيجة الاختبار البيولوجي على المتهمين؟

لو بادر السيد المتفقد العام بالاطلاع على نتيجة الاختبار البيولوجي المضمنة بأوراق القضية والمشار اليها بقرار ختم البحث، خلافا لادعائه، لعلم ان تلك النتيجة تؤكد وجود آثار بيولوجية تمكنت المخابر الجنائية والعلمية من تحديد سيماتها الجينية وبينت اي جنس تخصه (ذكر أو انثى)، وقد تم الاحتفاظ بها لمقارنتها مع كل مظنون فيه يقدم للغرض، مع ملاحظة انه تم استغلال العينات السالفة الذكر في إنجاز الغرض، هذا بالضبط ما ورد في تقرير الشرطة الفنية والعلمية المضاف بالملف، وهي نتيجة لا يمكن بداهة عرضها على المتهمين، فهي نتيجة علمية لرفع البصمات الوراثية الموجودة بالسيارة، تمت اضافة تقرير الاختبار المتعلق بها بملف القضية، بدليل وجوده فعليا كورقة من أوراق الملف، على أن تبقى العينات موضوع الاختبار لدى المخابر الجنائية والعلمية بالإدارة العامة للأمن الوطني ليتم مقارنتها مع اي نتيجة تحليل ADN لأي مشتبه فيه يعرض عليهم.

وبذلك فقد تم استيفاء الغرض من نتيجة الاختبار طبق ما دون بتقرير الاختبار.

نسأل الآن السيد المتفقد العام، لماذا رتب نتيجةً مخالفة لما هو موجود بملف القضية!؟

لماذا رفض المتفقد العام مد مجلس القضاء العدلي بتقارير التفقد السابقة والتي حسمت هذه المسالة بالحفظ وقد تمت مطالبته بذلك ورفض.؟

كلها تساؤلات مشروعة تقوّض ما ذهب اليه السيد المتفقد العام بخصوص هذه المسألة الثانية من مؤاخذاته على القاضي البشير العكرمي حول تعهده بملف اغتيال الشهيد شكري بلعيد.

هذا دفاع السيد البشير العكرمي وردوده عن هذه المؤاخذات، نبسطها للطرح والنقاش القانوني البحت بكل موضوعية، شأنها شأن بقية المسائل القانونية، اصلية كانت او اجرائية، والتي قد تثير خلافا في التحليل بين المختصين في القانون، كل يدافع عن طرحه بأسلوب متحضر وقانوني رشيق، بما يساهم في توضيح الحقيقة وتحقيق العدالة واثراء الفقه القانوني... بعيدا عن كل مزايدات سياسية او ايديولوجية للمسألة من هذا الطرف او ذاك، سواء أكان مدافعا عن البشير العكرمي او محرضا عليه.

هذه وقائع مستقاة من ملف إحالة السيد البشير العكرمي على أنظار مجلس القضاء العدلي المنتصب كمجلس تأديب، بناء على تقرير المتفقد العام لوزارة العدل... اي طرح قانوني لدحض هذا الرأي او ذاك مشروع ومقبول، اي تفنيد بالحجة المادية الدامغة لوقائع او تصريحات اوردها السيد المتفقد العام او السيد البشير العكرمي تبقى جائزة ومشروعة لمن تمسك بها .... في نهاية الامر، المنطق العقلي والعدل المنشود يقتضيان من كل من أراد تحديد موقف سلبي او إيجابي من هذا القاضي الا يفعل ذلك بطريقة دغمائية وانما بعد تمحيص وتحليل ثم له ان يطمئن للاستنتاج الذي يروق له بكل حرية ومسؤولية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات