الكيان ما زال غير شرعي، وما زال محتلاً، وما زالت المقاومة تملك مسوغاتها

الخسائر البشرية المتمثلة بأعداد الشهداء والجرحى ليست معياراً صحيحاً لتقييم جولة التصعيد الحالية بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، أو بتعبير أدق تدخل غزة عسكرياً في قضية حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى. ليس فقط لاختلال موازين القوى الدائم والملازم لحركات التحرر، ولا لأنه يتعارض مع منطق المقاومة ومواجهة المحتل أصلاً وحسب، ولا لأننا نقلل من قيمة هذه الخسارة (فالبشر أعز ما نملك)، ولكن لأنه فعلاً ليس المعيار الأصح.

المعايير الأصح والأدق هي مدى تحقيق هذا التدخل للأهداف المتعلقة بالقضيتين – الأقصى والشيخ جراح – من جهة، وكذلك تقييمه من زاوية مصلحة القضية الفلسطينية ككل، وهذا أمر يغيب عن كثير من التحليلات التي تعزل ملف القدس عن مجمل القضية، بلا قصد في معظم الأحيان.

في المقام الأول، التدخل العسكري للمقاومة لم يفشل هبة القدس والأقصى، بالعكس، يمكن القول إن تهديدات المقاومة كانت أحد أسباب إلغاء الاحتلال لمسيرة جماعات الهيكل وتأجيل المحكمة البت في قضية حي الشيخ جراح. وإذا ما ذهبنا لفكرة أن الاحتلال كان قد فعل ذلك قبل تهديد المقاومة ودخولها على الخط، فإن ذلك يعني أن المقدسيين قد انتصروا قبل تدخل المقاومة، وبالتالي فهي أيضاً لم تفشل حراكهم.

ثانياً، هناك خشية – ذات وجاهة – بأن التدخل العسكري يمكن أن يؤثر سلباً على الحراك المدني السلمي من مظاهرات واحتجاجات. بيد أن الواقع يقول بعكس ذلك، فقد استمر حراك الشارع، بل وتسارعت خطواته وضرباته بعد دخول غزة على خط المواجهة. بل إن المشاهد "الأجمل" في المناطق المحتلة عام 1948 (داخل الخط الأخضر) وفي الضفة الغربية قد بدأت بعد قصف تل أبيب. ولعل ذلك مما يجب أن يدفع نحو ترك التحليلات المقولبة والأساطير الراسخة في التحليل والاستشراف، والبناء على المعطيات الجديدة.

ثالثاً، أحد أهم مكاسب الجولة الحالية هو ربط القدس بغزة بهذه الطريقة. كان هناك سعي "إسرائيلي" ومعه جهد محلي وإقليمي ودولي لفصل مناطق ومسارات القضية الفلسطينية عن بعضها البعض، بحيث تصبح غزة للغزيين والضفة للضفاويين والقدس للمقدسيين، وعلى كل منهم أن "يقلّع شوكه بإيده". هذه المعادلة سقطت سقوطاً ذريعاً في هذه الجولة، وتوحدت فلسطين كل فلسطين خلف القدس، ثم خلف غزة، ثم لاحقاً خلف اللد وأم الفحم وغيرها من أراضي الداخل المحتل.

وهنا، سطرت المقاومة معادلة جديدة تقول وبوضوح إن سلاح غزة/المقاومة لكل فلسطين ولكل الفلسطينيين. وهذا فشل لاستراتيجية عمل عليها الاحتلال لسنين طويلة مع أطراف أخرى، تمثلت بحصار القطاع وضربه بعنف وجعل أي تدخل منه باهظ الثمن، بحيث تفكر المقاومة ألف مرة قبل أن تطلق صاروخاً، وهو ما كان يعني إبقاء سلاح المقاومة خارج الحسابات فيما يتعلق بالضفة والقدس والاستفراد بهما. اليوم يتدخل سلاح غزة/المقاومة لأجل القدس لترسيخ معادلة جديدة خلاصتها: لا يمكن للاحتلال الاستفراد بالقدس ولن نتركها وحيدة. وهذا أمر سيضعه الاحتلال في الحسبان بالتأكيد في المستقبل بخصوص المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح والقدس عموماً.

وأخيراً، ثمة تطور بالغ الأهمية وذو دلالة استراتيجية، وهو أن غزة هذه المرة "بادرت" لقصف مدن الكيان، بعد أن أبقيت طويلاً في موقع "الدفاع" عن غزة، مكتفية بالرد على الاحتلال إذا ما اعتدى على غزة قصفاً أو اغتيالاً. بل إن بعض التصريحات والأدبيات بالغت في الماضي في التأكيد على أن المقاومة "ترد الاعتداء ولا تبدأه"، وهو خطاب خاطئ برأيي رغم نواياه الحسنة. فالكيان ما زال غير شرعي، وما زال محتلاً، وما زالت المقاومة تملك مسوغاتها وأحقيتها – بل واجبها - في مقاومته، وهذا ليس عدواناً وإنما محض الدفاع والمقاومة.

وعليه، فإذا كانت المقاومة قد "بادرت" لدخول هذه الجولة حتى بعد انتهاء معركة الشيخ جراح والقدس بالانتصار لأسباب ارأتها ولا نعرفها، فلها كل الحق بذلك، بل هو واجبها، ولا لوم عليها فيه. لا هي قالت إنها حرب التحرير الأخيرة، ولا نحن ننتظر منها ذلك، لكننا ننتظر منها كل جهد يضعف الاحتلال ويقوي أوراق قوتنا وبالتالي يقرّب من موعد التحرير الذي نؤمن جازمين أنه قادم.

وسواء أكانت أهداف هذه الجولة الجديدة تثبيت معادلات جديدة، أو إضعاف موقف نتنياهو (وربما إنهاء مستقبله السياسي كما حصل سابقاً مع باراك)، أو استثمار أجواء الانتصار في القدس والأقصى، أو تثوير الضفة وأراضي الـ 48، أو كل ذلك، أو أهداف أخرى، فنحن معها وخلفها، ولها كل الحق وكل المشروعية في ذلك.

أخيراً، في حال أصر البعض على التقييم الكمي أو العددي، بحساب شهدائنا وجرحانا وخسائرنا المادية، فينبغي أن يضيفوا لهذا التقييم أربعة أبعاد حتى يستقيم:


• الأول، خسائر العدو أيضاً وإلا كان التقييم منحازاً.

• الثاني، مقارنة نسبة الخسائر البشرية بيننا وبين العدو مع الجولات السابقة، وإلا كان التقييم ناقصاً.

• الثالث، ملاحظة أن المقاومة تضع أرواح قياداتها وجنودها أيضاً على المحك ولا تخاطر بأرواح المدنيين وهي في مأمن، وإلا كان تقييماً وضيعاً.

• والرابع، إلقاء اللوم على الجلاد لا الضحية، وعدم تجاوز حقيقة أن الاحتلال هو من يقصف ويقتل، وأنه حتى دخول المقاومة على الخط لا يبرر استهداف المدنيين وخاصة الأطفال حتى من زاوية القانون الدولي غير العادل، وإلا كان تقييماً مضراً.

لا أحد يقول إن المقاومة فوق النقد أو أنها لا تخطئ التقدير أحياناً، لكن هناك فارق كبير، بل شاسع بين من ينقدها على أرضية الكره والرفض والانحياز ضدها، وبين من ينقدها حباً وحرصاً وتصويباً وتسديداً. ومن سمات الصنف الثاني أنه لا يقدم النقد ولا يتعمق أو يفصّل فيه بين يدي التصعيد وبذل الأرواح والدماء، طالما كان ممكناً تأجيل النقاش والنقد لما بعد انتهاء المعركة وطالما كان هذا التأجيل لا يشكل ضرراً أو خسارة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات