الإنتاج الدّرامي والمسرحي التّونسي: تبخيس الذّات الإجتماعيّة

على مدى ثلاثة عقود من الزّمن، أصبح نصيب الأسد من الإنتاج الدّرامي والمسرحي التّونسي قائما على تبخيس الذّات الإجتماعيّة. ملايين من الدّينارات تُصرف في تدمير ثقة الفرد في وطنه وانتمائه التّاريخي والاجتماعي. كتّابٌ ومخرجون يبذلون قصارى جهدهم لإذلال صورة المواطن (ة) العامل والفلاّح والمنتمي إلى الوسط الرّيفي وتقديمه في وضع ساذج، مثير للضّحك. كما يتنافسون في الاستهزاء من التّراث اللاّمادّي الذي يفترض أن يكون داعما للهمّة والانتماء. ومن ذلك المَأكل والملبس واللّهجات المحلّية وخاصّة الرّيفيّة... ويتنافسون في إعادة إنتاج المشاهد المشينة والرّديئة للبيئة الطّبيعيّة والعمرانيّة والأخلاقيّة، باسم الواقعيّة، دون تقديم بدائل جماليّة قابلة للطّرح والتّأثير والتّأويل.

ليس هناك صورة فنيّة محبوكة، واعدة ورافعة للهمم، في غياب مخيّلة إبداعيّة خصبة، بل هناك صورة ملوّثة مثقلة بالهَوان (l’avanie) والميزيريا، لا تفتن النّاظر، بل تبعث فيه الإحباط وإن حاولت تسليته (وذلك هو أقصى مشروعها!) فمن خلال طرح ساذج يحثّه على سحل ذاته والسّخرية من أجداده ومن انتمائه ويستحثّ فيه فكرة الهجرة. والأنكى، هو أنّ هذا النّوع من الإنتاج يحظى بالإعادات المستمرّة والمسترسلة من جيل إلى آخر، في زمن راهنت فيه الشعوب الأخرى على دعم الاعتزاز بالذّات وتمجيد قيم العمل والانخراط في الرّهانات الحضاريّة والقيم المعرفيّة، والذّكاء الاصطناعي، وقيم التّجديد، والإبداعيّة.

إنّ أعمال السّيتكوم، مثلا، وشخصيّات "المكّي وزكيّة" وببّوشة والمولدي والمنجي وعمّار البهلول وعلجيّة والتّوكابري و... وشخوص عروض الممثل الواحد، قائمة على الاستثمار في هذا الاتجاه والفقر الرّوحي والمادّي والتّخلّف الثقافي وحتّى الذّهني أي تبخيس الذّات الاجتماعيّة والاستهزاء من الانتماء... وهو نتاج فقر في الطّرح الجمالي وضعف في المخيّلة الإبداعيّة وليس نتاج خطّة في فضح الظواهر الاجتماعيّة من أجل تأويلها أو معالجتها من داخل تأويل فنّي ورؤية ثقافيّة عارفة وذات مرتكزات فنيّة.

هؤلاء لا يرون إلاّ الحُفر ليوقعوا فيها المُشاهد ولا يطربون إلاّ لمظاهر التّخلّف. في حين أنّ الواقعيّة "الموضوعيّة" في الفنّ، منذ القرن التاسع عشر، قامت على تمثّل صورة الواقع في شموليّته من داخل مقاربة عضويّة وليست اختزاليّة. وعندما عمل غوستاف كوربيه على إقحام المهمّشين والفقراء والمرفوضين والفلاّحين داخل إطارات أعماله، فقد صوّر نفسه واحدا منهم وقد سعى إلى تكريمهم وإجلاء نُبل انتمائهم وردّ الاعتبار إليهم وإعادة التّفكير في منزلتهم الاجتماعيّة ولم يسع إلى إذلالهم وجعلهم محلّ ضحك مثير للاهتمام وجالب للرّبح وباعث على التّموقع في السّوق…

كيف تستقيم تنمية جماليّة للفنّ دون تطوير جماليّة للتّلقّي؟

نحن شعب لا ينظر إلى العمل الفنّي البصري بِعينَــيه، بل "ينظر" إليه بأذنـيه. نحن ما نزال نقارب الأعمال الفنيّة من خلال ما نسمع عنها، فكيف لنا أن نرتقي بها إلى لحظة التّفكير النّقدي المنتج، أي لحظة النّظر فيها!

هكذا، في غياب ثقافة النّظر (إلى الأثر وفيه)، يتعذّر تطوير ثقافة للنّظريّة الجماليّة والنّقديّة. وبالتّوازي، لا نقرأ الأثر الإبداعي أوالنّقدي بل نسمع عنه من خلال أحكام جاهزة وملوّنة وأحيانا موجّهة وملفّقة وإيديولوجيّة وفي كثير من الأحيان إقصائيّة وذات نوايا مبيّتة، كالعادة. ذلك ما يحول دون تطوير حكم نقديّ ممكن ومحايث للأثر عينه.

إنّ جماليّة التّلقي التي تقوم على الطّرح التّاريخاني للتّذوّق الفنّي، مهضومة الحقّ في الفضاء الثقافي العربي ومن ذلك تتناسل أزمة المتلقّي والجمهور عامّة، كما تتناسل مكوّنات أزمة الفنّ وترويجه، خصوصا ونحن نحتاج اليوم إلى تعميم ثقافة التلقي الجمالي، بداية من برامج التّربية، ونشر الثقافة النقديّة لمواجهة هذا الزّحف العولمي، من جهة، وهذا التّمادي التّسطيحي، من جهة أخرى، ذاك الذي طال مختلف ربوع العالم العربي، إذ تأتينا الأعمال الفنيّة المصنّعة في شكل ثقافة معلّبة من أقاصي الشرق والغرب ومن إفريقيا معوّقة تحرير الذّائقة الفنيّة وتطوّرها الطبيعي والتّاريخي... وهي حالة من الإغتراب فعلا، تشجّع عليه سياسة السّلعنة وتبضيع الفكر الجمالي وكذلك تضبـــيع العقل الثقافي.

إنّ المعترك الثقافي والفنّي العربي ما زال لم يستوعب بعد ديناميّة الفكر النّقدي العارف وكثيرا ما يقع تعويضها بهيئات الإعلام ولجان التّنظيمات الثقافيّة وبعض الدُّمَى أو بأطراف أخرى من خارج الممارسة الفنيّة والنّقديّة... لم يجد الفكر النّقدي بعدُ موطئ قدم في ربوعنا والحال أنّه طرف في حداثة الفنّ في العالم وفي ما بعد الحداثة. ومردّ ذلك سيطرة المفاهيم البالية للفنّ في عالمنا العربي ورسوخها وانتشارها وتوارثها جيلا بعد جيل دون اعتبار للفكر التّاريخي ولمفهوم الزّمن أصلا، حيث تعتمد البرامج الثقافيّة على مفاهيم للفنّ غير ملائمة، مرتبطة بالكمالي والتّكميلي والتجميلي والزّينة... والنّتيجة، مقاربات تربط الفنّ بالتّنشيطي والتّرفيهي والمهرجاني العابر على حساب مفهوم الإبداع. وما يحتمله من آفاق تأويليّة.

حريّ بنا اليوم أن نحوّل "كيف" ننظر، "كيف" نقرأ... إلى مركز الهمّ الإشكالي، حتى لا يرتكز جهدنا على أسئلة قديمة من نوع: إلى "ماذا" ننظر؟ كفانا التّورّط في المضامين الميتا فيزيقيّة والميتا جماليّة التي أثقلت كاهل الدّراسات النّقديّة لزمن طويل.

لدينا مبدعون ليس لهم من متقبّلين لفنونهم غير أنفسهم! لدينا معارض فنيّة، عدد اللوحات المعروضة فيها أكثر من عدد الزّوّار، كما لدينا معاهد عليا لتعليم الفنون وليس لدينا جمهور للفنّ ولا سوق لترويجه... وبالتّوازي، لدينا أمسيات وصباحيّات شعريّة، عدد القصائد التّي تقّدم فيها أكثر من عدد الحضور، وأكاد أقول أنّ جمهورها لا يتجاوز الشعراء المشاركين أنفسهم!

وفي ظلّ هذا الوضع الأعرج، كيف تستقيم تنمية جماليّة للفنّ دون تطوير جماليّة للتّلقّي؟

لا حلّ سوى تطوير السّياسات الثقافيّة باتّجاه مفاهيم للإبداع ملائمة وتاريخيّة، قابلة للتّداول الاجتماعي ومخصبة للحسّ النّقدي، وإعادة إعمار الفضاءات الثقافيّة القريبة وربط التّربية (وكذلك الإعلام) بقيم الثقافة الإبداعيّة (زيارة المتاحف والمعارض الفنيّة واستقدام المبدعين أو الذّهاب إليهم ومحاورتهم وحضور الأماسي الأدبيّة منذ الصّغر) والقطع مع التّعامل البراغماتي مع المواد الفنيّة في برامج التّعليم، حيث المواد الفنيّة، في ذهن التّلميذ "النّجيب" لا تصلح إلاّ لترقيع أرقام علامات الامتحان ومعدّلاته، وكفى.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات