حتى العطاء يمــــــــــــــــــــــــــــــــــــوت..

سبحان من تفرّد بالبقاء..

حين توجهت في نوفمبر الأخير لاجراء عملية خطيرة وكبيرة، اذكر انك قلت لي ستخرج منها سالما يا اسد! فلما لم تخرج منها انت يا اسد؟! كنت تاتيني الى المستشفى وتدرك انهم لن يسمحوا لك بالدخول لكنك ترابط هناك لمدة وتعود؟ هل كانت فضيلة المساعدة تسوقك رغم المنع، كنت تهاتف الزوجة كل يوم، لتطمئن وتمطئن.. كنت دوما أكبر مني في العمر وفي الفعل وفي الفضل.. رحل الذي أسندني وأسند الشباب المهاجر والمهجّر. دخلت بيتك سنة 1994 وخرجت منها سنة 1999 حين تزوّجت وفتحت بيتي الخاصّ..

كم تركت اسرتك وعملك وفزعت لنجدة الممحون،..تركت عملك ذات 1994 وأتيتني بعد أن أخبرتك بأنّهم على وشك تسليمي إلى نظام بن علي، بعد أن قدّمت السفارات أخبارا مشوّهة، غامرت معي وتحمّلت الأذى وركبت المخاطر، ثمّ وصلنا إلى بيتك وما زلت هناك في طمأنينة حتى تحصّلت على اللجوء بفضل الله ثمّ بفضل مجهوداتك الكبيرة، ثمّ تزوّجت وخرجت من بيتك وأعددنا كلّ شيء هناك معا، ثمّ لم نفترق حتى التقينا في صبيحة اليوم الثاني للزواج، وكانت صداقة قويّة لم يزدها عامل الزمن إلّا متانة.

كنت أحدّث نفسي وأمنّيها بردّ الجميل لهذا الذي قدّم لي كلّ شيء، ولم يكن لدي ما أقدّمه لك أيّها الرّاحل غير المحبّة، وغير التقدير وغير يقيني بأنّك آخر المشّائين في خدمة إخوانهم بلا حسابات وبلا حدود، لقد انتهت قصّة الخدمات بعدك، فمن ذا الذي يمكنه مجاراتك يا فارس العطاء! من بربّك؟ كم من أسرة آويت، كم شابّ زوّجت، كم من تونسيّين كنت السبب في الحصول على إقاماتهم، كم عبرت الحدود بطلّاب اللجوء، وكم تجمّعوا في بيتك ومنها إلى مراكز الإيواء، كم استقبلت وكم وكّلت وكم غطّيت وكم دثّرت.. كم مسيرة مشيت وقدتها ورفعت شعاراتها.

آه أيّها الرّاحل، عيّاش أنا مثلك لا مال وفير لديّ لأعوضك عمّا قدّمت إليّ، مثلك استهلكتني الصراعات السياسيّة فلم أدّخر كما لم تدّخر، كان لدي أمل أن أدفع لك ثمن حجّة أخرى كهديّة على ما قدّمته إليّ لكن اعذرني لقد خانني جيبي وربّما خانني معه التقاعس والأماني.. لا موت ينغّص على هذا الفجر، فكلّنا إلى ذاك الطريق، فقط يبكيني بشدّة أنّك لم تكرّم كما ينبغي منّي ومن الذين قدّمت لهم وقتك وجهدك وفتحت لهم بيتك.. تحدّثت مع الكثير منهم، هم على قناعة وحماس بتكريمك التكريم الذي يليق بتاريخك، لكنّها الأماني حين تراودنا حتى تسحبك منّا بلا نياشين.

أيّها الرّاحل أقسم بالله الذي سألقاه وتلقاه ما رأيت إنسانا خدم النّاس مثلك، وأقسم أنّه ما خدمني إنسان مثلك، وأحسب ولا أقسم أنّك فلتة أخذك الموت وترك ثلمة لن تسدّ.

أذكر أنّه وحين احتدمت المظاهرات سنة 1996 وتدخّل البوليس الألماني بقوّة لمنع الاشتباك بيننا وبين أنصار بن علي، حاول الحاج أحمد خليفي اقتحام البلدية كحركة احتجاج، ثمّ تحجّج بتقديم رسالة للجنرال، كان الخليفي أحد أشرس المعارضين لحكم بن علي، أغلب المظاهرات تحصّلت على التراخيص باسمه، كان الوسيط بين السلطة الألمانيّة وبين المناضلين التونسيّين منذ سنة 1987 إلى تاريخ سقوط بن علي، لاحقا ظهرت رموز نهضاويّة أخرى تولّت الأمر، كما سبق وتحصّل على رخصة لمظاهرة كبيرة قادها سنة 1987 في مدينة دوسلدورف أمام القنصليّة احتجاجا على سلسلة الإعدامات..

هذا الرجل الذي احتضن أبناء النّهضة كان من عمّالنا بالخارج، قدم إلى ألمانيا سنة 1966، ما زلت أذكر كيف توافد 47 من المتظاهرين على بيته، ما زلت أذكر أنّ المعارض سليم بقة الذي شارك في المظاهرة كان سكرانا يومها، واستقبله الحاج في بيته، أذكر أنّني أردت مداعبته فأشار إليّ الحاج بالتوقّف وأشار للحضور بعدم إحراجه بالتطرّق إلى مسألة السكر..

أذكر يومها أنّ زوجته الحاجة وناسة قامت بنصب الكسكاس الثاني أو الثالث في الساعة الثالثة والربع صباحا.... ثمّ ها أنت ترحل في المساء وها أنا أكتب في الساعة الثالثة والربع صباحا، ولا أكتب1 تتحرّك لوحة المفاتيح بلا روح بلا طعم، يخيّم عليّ الحزن العميق، ليس لموت، ولكن لسؤال يرهقني إلى حدّ الإعياء، من يخدم النّاس بعدك ومثلك... الوداع يا صديقي وأخي.. الوداع يا صاحب اليد الطولى.. وداع بطعم الألم، وكيف لا ونحن نودع نهر العطاء إلى مثواه الاخير، هل رأيتم كيف يتوقّف الجدول عن الخرير؟ ها قد توقف وانتهى إلى ربّه.

السّلام عليك يا صديق العمر، متّ عندهم أمّا أنا حتى وإن تناسيت ستبقى مزاياك الكثيرة الغزيرة الوفيرة تذكّرني بك حتى نلتقي في رحاب الله سبحانه وتحت رحمته التي وسعت كلّ شيء.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات