الثوريون والدولة (2):

Photo

أذكّر بالمشكل المطروح في هذه المقالة: المشكل هو لماذا أخفق الثوريون في التعامل الناجع مع الدولة لجعلها في خدمة أهداف الثورة وتطلعات الحراك الاجتماعي؟ يمكن أيضا صياغة المشكل بشكل مختلف بطرح السؤال: لماذا لم يقدر الثوريون الذين أوصلتهم الانتخابات إلى الحكم على اختراق منظومة الحكم وتملكها من الداخل وإعادة بنائها أو هيكلتها وظيفيا لصالح استحقاقات الثورة؟

لنُعرّف أولا المنظومة:

"المنظومة هي مجموعة مكونات مترابطة من أجل تحقيق هدف مشترك في سياق سيرورة تحويل منظمة لجملة من الموارد إلى منتج نهائي".

(Ludwing Von Bertalanffy (1901- 1972; Biologiste): Théorie générale des systèmes (1937).

الدولة جهاز ضخم ومنظومة فائقة التعقيد. ليس مطلوبا من الثوريين تقويض الدولة وبناء دولة أخرى مكانها، لا فقط لأن هذه مهمة مستحيل تحقيقها ولأن معناها بكل بساطة دفع البلاد للفوضى والخراب الشامل، بل لأنها مهمة لا لزوم لها البتة. عندما هرب بن علي، مع قيام الثورة وتأججها، لم تتوقف الدولة عن العمل: لم تتوقف رواتب وجرايات الموظفين والعمال والفنيين في كل القطاع العام، ولم تتوقف شبكة الكهرباء والماء والهاتف والانترنات عن العمل، رغم وجود بعض حالات التخريب الجزئية والمعزولة، زمن الترويكا خاصة. أذكر أن قابض المركز الجهوي للبريد بقابس، لما خاف على " البوصطة" من الحرق والنهب، هرّب الأموال والوثائق الهامة التي فيها من فوق الأسطح وخبأها في مكان آمن حتى استقرت الأوضاع، فأرجعها إلى مكانها في الإدارة.

المدارس والجامعات توقفت مؤقتا عن العمل، ثم عادت بعد انفضاض اعتصام القصبة 1، بكل تلقائية وانسيابية.

وهكذا الأمر لسائر أجهزة الدولة. الدولة كائن مستمر ومستقر وله تقاليد عمل ونظام ثابت لا ينهار بمجرد هروب رأس النظام وأعوانه أو تنحيتهم. الدولة بها موظفون واعوان وفنيون وعملة، أغلبهم مواطنون مهنيّون ومحبّون لبلدهم.

وبحسب النظرية العامة للنُّظُم والمنظومات، فإن المنظومة لها ثلاث صور، أو تصورات:

- صورة مثالية : في حال الدولة، الصورة المرسومة لها في الدستور (مثل القول إن الدولة مستقلة وذات سيادة : فهل هي حقا مستقلة تماما وذات سيادة كاملة ومطلقة؟) وفي القوانين، وفي جزء من المخيال الجماعي. الدولة القوية الديمقراطية العادلة هي الصورة المثالية المرسومة لها في دستور الثورة.

- صورة نفس- اجتماعية : وهي الصورة التي يحملها عنها الفاعلون الاجتماعيون. مثل قول بعضهم إن هذه الدولة "جمهورية موز". أو على العكس من ذلك، حمل صورة إيجابية عن الدولة والحرص على عدم المس من هيبتها. وهنالك جانب آخر في التصورات النفس- اجتماعية للمنظومة يتمثل في إضفاء قدر من المرونة على قواعد اشتغالها ووضع قواعد أخرى متكونة من جملة من الأعراف والعادات وسلوكات التساهل والمحاباة والمحسوبية، إلى حد بلوغ عتبة الفساد والتوغل فيه أيضا.

- صورة واقعية : أي المنظومة (وفي قضية الحال، الدولة) كما هي في الواقع. وهي صورة تقع بين صورتها المثالية والصور النفس-اجتماعية المحمولة عنها.

لتغيير واقع المنظومة والارتقاء بها إلى مستوى صورتها المثالية يجب حصول تغييرات إيجابية في الصور المحمولة عنها نفس اجتماعيا، لا بمجرد الخطب السياسية ودروس التربية الوطنية، فحسب، بل بالقيام بالإصلاحات العميقة اللازمة.

لنأخذ مثال قضية الاستقلالية. تفيد النظرية العامة للنظم أن المنظومات المتطرفة في استقلاليتها، أي المنغلقة على نفسها تماما، تسلك سلوكا انتحاريا ينتهي بتفككها وموتها. المنظومة الحية والنامية هي المنظومة التي تجري تبادلات وظيفية مع محيطها. في حالة الدولة: المبادلات التجارية، العقود الاقتصادية، المعاهدات الأمنية، الاتفاقات العلمية والثقافية…الخ.

المبالغة في الانفتاح يكون على حساب التماسك الداخلي للمنظومة، حيث يتم اختراقها وابتلاعها من طرف منظومات أخرى. لذا يجب أن ترسم حدود مناورة ذكية للانفتاح والانغلاق. من يتسلم مقاليد الحكم يجب أن يعلم تماما بالوضعية التي عليها بلاده تفصيليا في كل مجالات التبادل والتعامل مع بقية الدول والمنظومات والمنظمات الدولية والإقليمية. لا يمكن الانطلاق في إصلاحات كبرى في شتى الميادين إلا وأمامه خارطة الاتفاقات الدولية التي عقدتها بلاده مع بقية الدول والمنظمات الدولية. فيكون كل اهتمامه منصبا على الاشتغال على معادلة: احترام اتفاقات الدولة ومعاهداتها، وتحسين شروط التعامل مع شركائها أو تغيير شروط المواجهة مع أعدائها، إن فرضت عليها عداوات عدوانية، بحيث تكون حصيلة المعادلة في النهاية تعزيزَ أرصدة الدولة الوطنية في الاستقلال.

ماذا يحصل مع الثوريين عندما يتسلمون مقاليد الحكم في الدولة، دولة يجهلونها، يجهلون دواليبها وتقاليد عملها وأعرافها وتاريخ علاقاتها؟

هؤلاء الثوريون هم عموما قادة معارضة لأنظمة سياسية استبدادية. أي معارضة من خارج المنظومة ككل، بما في ذلك مؤسسة البرلمان، إن وجدت. هؤلاء الحكام الجدد هم نفس- اجتماعيا محكومون بتصورات وموجهات نفسية واستعدادات ذاتية تشكلت في سياقات اللاحكم، أي أن لهم اشتراطات نفس-اجتماعية واتجاهات ليست دائما من جنس ما يتطلبه العمل في الدولة وفي مراكز قرارها العليا.

إن لهم تطبعات des habitus لا تتناسب مع الأدوار الجديدة التي تسلموها. وما يحدث عموما لهم ومعهم، أنهم يتسلمون المكانات les statuts ولا يتقمصونها تقمصا يمكّنهم من لعب الأدوار les rôles المنتظرة منهم. مثال" وينهي الحكومة؟!" لرئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي مثال جيد جدا على هذه الواقعة السوسيو- سياسية.

نقص فادح مما لا شك في ذلك في التكوين القيادي بنوعيه: التكوين في المدارس العليا للإدارة، كما هو واقع، بخلاف ذلك، مع عدد كبير من رؤساء الدول الأوروبية مثلا. ونقص فادح في التكوين في الأكاديميات الحزبية. بل غياب كامل لهذه الأكاديميات. يقوم معهد تونس للسياسة بعد الثورة بمجهودات لا بأس بها لمساعدة الأحزاب البرلمانية على تدارك هذا النقص لدى قياداتها. ولكنها لا تكفي لتجعل إطارا حزبيا رجل دولة. ولن تجد رئيس حزب أو أمينا عاما له يتابع تكوينا عاليا في المسائل التي تتعلق بتسيير دواليب الدولة وسياساتها الخارجية ورسم الخطط والاستراتيجيات في مؤسساتها الاقتصادية والتربوية وغيرها.

ومع ذلك، فإن ما أنجز زمن الترويكا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، لا زال أفضل بكثير مما أنجز بعدها لدى إعادة نشر المتمرسين من المنظومة القديمة في دواليب الدولة وتركيز تكنوقراطها المتكون في المدارس الفرنسية العليا للإطارات. فما كان متوفرا لدى الثوريين من إرادة سياسية، أوهنتها مع ذلك خيارات قيادات النهضة التصالحية مع المنظومة القديمة، ليس متوفرا لدى المتمرسين بالحكم والمتكونين في أعلى مستوى على التسيير الإداري، والعكس بالعكس. فها نحن نشاهد الحصاد الهزيل والصابة المسوّسة للعائدين للحكم من المنظومة القديمة والتكنوقراط الخلص المفتقدين للتكوين السياسي وللمشروع الوطني الثوري.

الآن على الثورة والديمقراطية أن تنمي مخالبها وأن تخرج من عفويتها وسذاجتها وأن تكوّن رجال دولتها، طالما أن مناخ الحرية لا يمنع من ذلك مطلقا، رغم تواصل العرقلة من أعوان الدولة العميقة.

بقيت نقطة أخيرة، أستفيد فيها مما جاء في كتاب ميشال كروزييه عن الفاعل الاجتماعي والمنظومة، وهي أن المنظومة مهما أحاطت نفسها بأسيجة تؤبد احتكار القرار فيها ولعب الأدوار لأشخاص لهم ملامح محددة سلفا ويتم اصطفاؤهم بترتيبات وآليات دقيقة، وهذا أمر له وجهان، واحد إيجابي (الحوكمة والمِهَنِيّة) وواحد سلبي (الزبونية والمحسوبية) بحسب طبيعة النظام السياسي المهيمن، فإنها (أي المنظومة) ليس بوسعها الغفلة عن بعض الثغرات التي يتسلل منها بعض الفاعلين من داخلها لتغيير بعض قواعد التعامل والعمل لصالحهم ولصالح مشاريعهم. هذه الثغرات غير المراقبة أو التي يصعب على المنظومات مراقبتها أو غلقها، هي التي يجب أن ينتبه إليها الفاعل الثوري وأن يوسعها، بالتشريعات القانونية الجديدة مثلا، وبالتعيينات المناسبة لكفاءات سياسية في مواقع مهمة، وأن يمنع تسلل لصوص الثورة المضادة منها إلى داخلها.

تسلم الحكم ليس بالأمر الهين. جانب منه يستعد له جيدا، وجانب آخر يكتسب بالممارسة والتجربة والتعلم من الأخطاء. فإذا كان تاريخ العلم (الذي هو مجال مثالي للدقة والصحة) ليس إلا تاريخ تصحيح أخطائه، فإن تاريخ تسيير الدولة من طرف الثوريين الديمقراطيين لن يكون معفيا بالضرورة من ارتكاب الأخطاء، والأهم في هذا كله هو تطوير أدائهم بالاستفادة من أخطائهم، ولو على سبيل التعاقب، صفا من بعد صف، وحزبا من بعد حزب، وائتلافا من بعد ائتلاف، وجبهة من بعد جبهة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات