ما مشروعنا الوطني؟ (3/3)

Photo

استحقاقات الثورة وانتظارات الشعب وحاجاته الحيوية :

بعد المحدّدات الثقافية والتاريخية والجغراسياسية، تأتي محدّدات آنية ومستقبلية. الآني نعني به ما برز خلال العشر سنوات الأخيرة من مطالب وانتظارات شعبية وحاجات مجتمعية حيوية، وهي مطالب وانتظارات اجتماعية خاصة، تتعلّق بالتّشغيل، والقدرة على تلبية الاحتياجات المعيشية على نحو يحفظ كرامة المواطنين وأسرهم، وتعزيز دور الدولة في تقديم الخدمات الاجتماعية وتجويدها، ومقاومة النزوع نحو تأبيد الفوارق الجهوية وتعميقها، وحسن استغلال الموارد والثروات الطبيعية لصالح التنمية الوطنية عامة والتنمية الجهوية خاصة، وتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية. وقد عبّر الدّستور عن مجمل هذه الانتظارات والاستحقاقات الثورية، ولكن مع السّكوت عن منوال التنمية الحالي ذي التوجه الفرداني غير الاجتماعي وغير التضامني، والريعي غير الإنتاجي. ولعل طبيعة النص الدستوري العامة هي التي جعلته يسكت عن هذا الجانب الإجرائي. ومن هنا حصلت وتحصل كل الانسدادات الاجتماعية التي عايناها ونعاينها الآن.

فتصبح الملاءمة بين روح الدستور ذي التوجه الاجتماعي الديمقراطي والتوجه اللامركزي والديمقراطي التشاركي والمحلي (الباب السابع) وبين المنوال التنموي ضرورة قصوى.

وتوجد نوعية أخرى من الانتظارات ذات مستوى أعلى في سلم الاحتياجات المجتمعية وأبرزها الإجماع المدني حول ضرورة إنجاز إصلاح تربوي جذري. ثم تمّ الانتباه بعد ذلك، في المجتمع المدني وفي بعض الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، إلى العلاقة العضوية بين المنوال التّربوي والمنوال التّنموي. وذلك في مستويين:

أوّلا: في مستوى الإفادة المباشرة الحاصلة لكل منهما من الآخر: ففي مجتمع المعلومات والمعرفة، يصبح التعليم الموجّه نحو معارف إجرائية متجددة تستجيب للحاجات العمرانية الجديدة للمجتمعات والدول والشركات، رافعةً أساسية من روافع التنمية وخاصّة من خلال القيمة المضافة الرّقمية التي تدخل على المنتجات التقليدية القادمة من الزمن الصناعي.

فقيمة السيارة أو الطائرة أو منظومة تشغيل مصنع من المصانع لم تعد تُحدّد بدرجة أولى بمقدار المواد الصلبة والأسلاك التي تُكوّن هيكلها ومحرّكاتها وسائر تجهيزاتها ومكوّناتها، بل خاصة بما انصهر فيها من معرفة تكنولوجية رقمية وأَتْمَتَة. هنا تكون التّربية المتجدّدة والمتحوّلة من منوال التّعليم المركِّز على المعارف النظرية إلى منوال التكوين المُكسب للمهارات والكفايات العملية والفنية، في خدمة الاقتصاد والتنمية. وفي المقابل يحتاج تجديد المناهج والمقاربات البيداغوجية والبنية التحتية والوسائل التعليمية، مثل وسائل التعليم الرقمي عن بعد، ومثل السبورات واللوحات الالكترونية، ومدّ شبكات الاتصال الرقمي إلى كامل أنحاء البلاد، بما في ذلك القرى النائية والأرياف، عملا بمبدإ التمييز الإيجابي بين الجهات، إلى اعتمادات كبيرة، لا يمكن لاقتصاد ضعيف ومنوال تنموي ريعي أن يوفّرها، خاصة مع تواضع الموارد الطبيعية. وفي حال التّعويل على المساعدات الخارجية، لن يقع أبدا تجاوز القيام بعض الإصلاحات الجزئية في البنية التحتية أو في بعض طرق العمل التربوي والجامعي، ومستوى خلق احتياجات جديدة في المنظومة التربوية والجامعية تكون مقدّمة لتحوّلها إلى سوق لفائض الإنتاج الخارجي، كتكنولوجيا جاهزة للاستخدام، بمواصفات محدودة الجودة، وباشتراطات معينة مُضيِّقة، في المجالات الحسّاسة.

وهنا نصل إلى المستوى الثاني في العلاقة بين التّربية والتّنمية، وهو المستوى السياسي السيادي. لا سيادة وطنية بدون تنمية متحرّرة من التبعية، ولا تنمية مستقلة في زمن الاقتصاد المعرفي بدون منظومة تربوية وطنية سيادية. فتكون المؤسسة التربوية في بلد ديمقراطي ذي توجه ثوري في طموحه نحو التقدم والاستقلال، خط دفاع استراتيجي عن سيادة البلاد.

وهكذا يكون الإصلاح التربوي الوطني السيادي عنوانا بارزا من عناوين مشروعنا الوطني الذي يبغي استكمال مهمة الاستقلال الناقصة التي بدأها الأجداد والآباء. ولا تحلّ معضلة الحاجة المتبادلة بين التربية والتنمية في البدايات، إلا بمستوى عال من الوعي الوطني الجماعي وبمساهمات وازنة من المؤسسات العمومية والرساميل الوطنية النظيفة ومن المجتمع المدني والأهلي، وبما يوفرها الحكم المحلي من إمكانات المساهمة.

وبالعودة إلى احتياجات المجتمع الجديدة، مثل المنتجات المرقمنة والمؤتمتة التي أكّدت أهميتها الأزمة الحالية لجائحة الكورونا، فإن حاجة حيوية أخرى مثل ضرورة ضمان أمننا الغذائي، كما أفادت به واقعة غلق الحدود في سياق اشتداد تلك الجائحة، لم تعد أمرا يقبل التأجيل. فيكون الاستثمار الاستراتيجي في القطاع الفلاحي والصناعات التحويلية (خضر، حبوب، غلال، فواكه، زيت، لحوم، بيض، ألبان..الخ) والمحافظة على مخزوننا من المياه وإغنائه المستمر بترميم السدود القديمة وبناء سدود جديدة وترشيد استهلاك الثروة المائية لضمان شامل لأمننا الغذائي، عنوانا بارزا هو الآخر من عناوين مشروعنا الوطني وعاملا من عوامل تحقيق الكرامة والاستقلال الوطنيين.

5- استشراف حاجات الأجيال القادمة والتطورات الكونية المحتملة :

وهذه مسألة يؤكّد عليها كثيرا الرّئيس الأسبق الدكتور منصف المرزوقي. وهو من السياسيين القلائل في البلاد العربية الذين ينتبهون لأهمية التفكير في حاجات الأجيال القادمة وحقوقهم. وقد كان رائدا في التعبير عن الحاجة إلى التخطيط لمواجهة مشكلات ستصبح في المستقبل القريب ملحة للغاية، مثل قضية البيئة، والموارد المائية، والبذور الأصيلة المخصبة، والأمن الغذائي- وقد أشرنا إليه- والعوامل المناخية، وارتفاع منسوب مياه البحر، والسياسات الوطنية في المجال البحري، والأشكال المستقبلية للتربية والتعليم ووظائف المؤسسة التربوية وأهدافها- وقد أثرنا جانبا من إشكالاتها- والأمن الروحي للشعب وللشباب، دينيا وقيميا ولغويا.

كل هذه القضايا يجب أن تكون بالفعل مندرجة في مشروعنا الوطني، لأن من خاصيات هذا المشروع هو الرؤية الاستشرافية والامتداد والتواصل في الزمن.

ثالثا- أهداف مشروعنا الوطني:

من كلّ ما سبق يمكن استخلاص الأهداف الآتية لمشروعنا الوطني:

1- استكمال استقلال البلاد سياسيا واقتصاديا وثقافيا وتربويا وبسط السيادة الوطنية الفعلية على كل مكونات الدولة والتراب الوطني والمياه الإقليمية.

2- العمل على إنجاح فكرة الوحدة المغاربية ولو بشكل متدرّج، وعلى تمتين علاقات تونس بالاتحاد الإفريقي اقتصاديا وثقافيا وتعليميا، وتحسين شروط التعامل مع الاتحاد الأوروبي وبلدانه.

3- ترسيخ الديمقراطية وحمايتها.

4- الاستجابة لاستحقاقات الثورة الاجتماعية.

5- تحقيق الأمن الشامل.

6- تحقيق الانسجام بين روح الدستور ذي التوجه الديمقراطي الاجتماعي والمحلي من جهة، والمنوال التنموي من جهة ثانية.

7- بناء مدرسة وطنية متميزة ومستجيبة للحاجات التربوية والتعليمية الحالية والمستقبلية للأجيال، بجودة عالية.

8- وضع خطة وطنية تحفظ حقوق الأجيال القادمة بمختلف أنواعها المادية والمعنوية، وتطبيقها.

رابعا- المخاطر التي تتهدّد مشروعنا الوطني وكيف نبطلها وننتصر عليها:

توجد ثلاث أنواع من المخاطر المتربصة بالفعل أو بالاحتمال بمشروعنا الوطني:

1- مخاطر من تحالف المنظومة القديمة مع قوى الثورة المضادة، أو/و مع لوبيات الفساد.

2- مخاطر الصراع الإقليمي والدولي على بسط النفوذ في حوض المتوسط وفي شمال إفريقيا، بما يربك مسارنا الوطني الديمقراطي والتنموي. إضافة إلى مخاطر الإرهاب المنبعث من الداخل أو القادم من الخارج.

3- مخاطر أو محاذير تتعلق بنوعية ودرجة الالتزام الداخلي بالمشروع الوطني. ونعني بالداخل القوى السياسية والمدنية وفي مقدمتها قيادات الدولة في قرطاج والقصبة وباردو، ومختلف القوى الوطنية الحزبية والاجتماعية. يضاف إلى كل هؤلاء نوعية الوعي المواطني ومدى استعداد عموم الشعب للعمل على إنجاح المشروع الوطني بالمشاركة الفاعلة وحمايته من كل محاولات التخريب. وأخيرا، لا يفوتنا أن نذكر الإعلام العمومي والخاص، الذي هو سكين ذو حدين، وله دور خطير جدا في نشر الفكرة والمشروع والوعي العام به، أو في عرقلته بالتشويش والافتراء عليه وتشويهه.

كيف نواجه كل هذه المخاطر وتبطل مفاعيلها أو نستبقها حتى لا تحصل، عندما يكون ذلك ممكنا؟

طرق ووسائل مواجهة كل هذه الاحتمالات عديدة، نذكر منها:

1- بفتح حوار وطني كبير ومتنوع المداخل وفي مستويات عدة رسمية وغير رسمية للاتفاق على مشترك وطني يشمل كل القضايا المصيرية للبلاد وللمجتمع.

2- بتكوين كتلة تاريخية ديمقراطية من أجل إنجاز المشروع الوطني.

3- ببلورة ديبلوماسية ذكية وناجعة تخدم أغراض المشروع.

4- بإعداد منظومة إعلامية فعالة للتعريف بالمشروع الوطني وتكوين رأي عام حليف له وعامل فيه، والرد السريع والمركّز على كل محاولات التشكيك والتّشويه.

5- بتحسيس المجتمع المدني بالمشروع وأهميته ودعوته إلى جعله محورا مركزيا من محاور نشاطه ونضاله.

6- بنشر أدبيات حول مختلف قضايا المشروع ومحاوره بلغات مختلفة.

7- بتقوية المواجهة مع الفساد ومحاصرته.

8- بإعداد خطة قانونية شاملة لحماية المشروع في الداخل والخارج من كل تشويش أو تشويه.

وفي الأخير، إذا ما جرت أمور مركبنا الوطني بريح طيبة، وأفرزت مجريات الأمور في السنوات القادمة قيادة قوية تتبنى هذا المشروع، مع وجود كتلة تاريخية منتصرة له، فسيكون هذا عاملا قويا مساعدا على وضعه على سكّة التنفيذ.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات