احتجاجات أميركا.. ذاكرة السود وجرح لم يندمل

Photo

تكاد التحرّكات الاحتجاجية التي اندلعت في الولايات المتحدة الأميركية تطوي أسبوعها الثاني، مخلفة خسائر كبرى في الممتلكات وبعض الأرواح، وقد كان قتل المواطن الأميركي ذي البشرة السمراء، جورج فلويد، على يد أحد رجال الشرطة حدثاً بليغاً. وفي هذا، تمنحنا الولايات المتحدة على المستوى المعرفي أهم المفاتيح النظرية لفهم هذه الاحتجاجات. فقد تشكلت فيها خلال القرن الماضي أهم الحركات الاحتجاجية: العمالية، النسوية، البيئية، علاوة على الحركات المناهضة للعنصرية.

وعلى هذا الإيقاع والتنوع، تبلورت نظريات علمية عديدة، لتنتشر لاحقاً خارج الولايات المتحدة، وتلقفتها مجتمعات أخرى: بريطانيا، فرنسا... إلخ، فتطورها وتعدلها. كانت أميركا مخبراً حيّاً، ولا تزال، لنشأة هذه الحركات وميلاد النظريات الخاصة بها.

كان مقتل جورج فلويد القادح الذي ألهب مشاعر المحتجين في سياق محدود، قد اتسم بأمرين بالغين: انتشار فيروس كورونا الذي حصد أرواح أكثر من مائة ألف نسمة، وتصاعد خطاب شعبوي يقوده رئيس أهوج، ضحى بالحد الأدنى من الإصلاحات الاجتماعية الصحية التي قادها سلفه الرئيس باراك أوباما، والتي حاول من خلالها ضمّ فئاتٍ واسعة من "السود" إلى شبكة الضمان الاجتماعية في بلد لا يعترف بأي شكل من الحماية الاجتماعية التي تبديها الدولة تجاه هذه الفئات المحرومة، فالليبرالية الحادّة والقاسية لا تعير لهذه الأشكال التضامنية أي اهتمام.

وقد أوجد هذا السياق الذي جرت التضحية فيه بالفئات الفقيرة، والملونين منهم تحديداً، وألقى بهم فريسة الفيروس، مناخاً ملائماً للاحتجاجات، إذ تفيد دراساتٌ أُنجِزَت أخيراً بأن "السود" والمواطنين من أصولٍ أفريقيةٍ وآسيوية أكثر عرضة للفيروس، وهذا حال بريطانيا والولايات المتحدة ومجتمعات أخرى.

اتسعت هذه التحرّكات الاحتجاجية التي لم تخلُ من عنفٍ، لتشمل فئات اجتماعية من غير الملونين، وانضم إليها فنانون ورياضيون يُعتبَرون قادة للرأي في أحيانٍ كثيرة. وجلبت بذلك قدراً كبيراً من التعاطف والمشروعية. وجرى "تنبيل" (جعلها قضية نبيلة) مقتل المواطن جورج فلويد، لأن بنية الفرص السياسية كانت مواتية (نظرية صاغها الأميركي شارلز تيلي، قبل أن يطورها ماك آدام لاحقاً)، وهي نظرية التصقت تماماً بالحركات الاحتجاجية السوداء، خطاب سياسي أرعن، اختيارات اقتصادية واجتماعية موغلة في الإجحاف، وقرارات صحية عجزت عن مواجهة الوباء.

لا يمكن إنكار قدرات التعبئة الهائلة التي أبداها النشطاء المنخرطون في هذه التحرّكات، وجمعية أنتيفا تحديداً، والتي استطاعت، في وقت قصير، أن تتحوّل إلى فاعل مهم يثبت، مرّة أخرى، أن الجماعات المسحوقة اجتماعياً في الولايات المتحدة الأميركية يمكن أن يكون لها ناطقٌ بلسانها. لم تجعل هذه القدرات من قتل شرطي مواطناً أسود قضية وطنية فحسب، بل قضية إنسانية نبيلة، حرّكت جماعاتٍ واسعة في بريطانيا وعدة بلدان، ودفعت قادة الاتحاد الأوروبي إلى إدانة الإفراط في استعمال العنف.

كان يمكن أن يمرّ الحدث عابراً يتبخّر في مجرى الأحداث الجسام، ويطمسه الرهاب من كورونا، ومناخات الموت المنتشرة في أميركا، ولكن ثمّة ذاكرة ملهمة للاحتجاج الملون في الولايات المتحدة التي شهدت طوال عقود نضالاً سلمياً مدنياً (1950 - 1960) قادته حركة الحقوق المدنية. وتعيد صورة قتل المواطن فلويد إلى الأذهان اغتيال زعيم تلك الحركات، مارتن لوثر كينغ (إبريل/ نيسان 1968) التي خاضها المواطنون الأميركيون من أجل وضع حد لأشكال العنصرية والفقر. من يصدق أن بلداً في عظمة الولايات المتحدة وقدسية قيمة الحرية فيها، حتى خصتها بتمثال مهيب، لم يُجز لمواطنيها الملونين إلا متأخراً ارتياد المقاهي والمدارس مع بني وطنهم البيض. هذه الذاكرة المكلومة تظل قابلة للفيض حال حكّ الجرح الذي لم يندمل.

تمكنت هذه الحركات الاحتجاجية، على الرغم مما شابها من عنف، من أن تثير أسئلة تتجاوز مناهضة العنصرية، حين أُدرجَت في أفق احتجاجي أوسع وأشمل، وجرى الانخراط فيها في شوق إنساني فسيح، ذلك أن اليسار الأميركي، من خلال علاماته الفكرية وحسّه النوستالجي والإنساني الذي ظل حيّاً منذ مناهضة حرب فيتنام ثم الحرب على العراق وغيرهما من أحداث، أفلح في السموّ بهذه الاحتجاجات، وانخرط فيها في نضال إنساني ومواطني مناهض لليبرالية التي افتضحت قسوتها خلال اختبار كورونا...

في بلد الرخاء الأسطوري والاكتشافات العلمية وغزوات الفضاء التي استؤنفت أخيراً بحثاً عن سياحة الفضاء وشراء كواكب للنجاة من كوارث نووية محتملة، يموت آلاف يومياً، لأنهم لم يجدوا في مستشفيات بلدهم، إن وصلوا إليها أحياء، كمّامة أو جرعة هواء.

استطاعت الولايات المتحدة أن تحتوي مختلف الحركات الاحتجاجية، مراهنة على فتور هذه الحركات وضعفها بمرور الوقت، والعجز عن تعبئة المحتجين وقتاً طويلاً. وقد لفظت عديد من تلك الحركات أنفاسها، ولم تحقق ما كانت تهفو إليه. ولكن علينا أيضاً أن نتذكّر أن تنازلات عميقة قدمت، وتحقق بفضلها لتلك الحركات بالذات عدة مكاسب: توسيع الحقوق المدنية التي جرى تقنينها بشكل صارم، علاوة على حقوقٍ عديدة حصل عليها العمال والنساء نستحضرهما كل سنة عند الاحتفاء بعيد العمال العالمي واليوم العالمي للمرأة اللذين أصبحا من ذاكرة الإنسانية... إلخ.

سيكون من السابق لأوانه توقع مآلات هذه الحركة الاحتجاجية، وما إذا كان في الوسع أن يصبح جلد التمساح ليّناً قادراً على جسّ نبض السود، لا باعتبارهم عرقاً أو فئة، بل باعتبارهم فئاتٍ واسعة، تضرّرت من سياسات اقتصادية واجتماعية ظالمة، تقودها بلادهم، وتفرضها نموذجاً للنجاعة والجدوى، غير أن الأرجح أن رئيساً شعوبياً أخرق سيدفع الثمن باهظاً في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات