كيف نشكل حكومة التسوية التاريخية؟

Photo

منذ أن صدرت نتائج الانتخابات التشريعية وأنا منتصر لخيار تشكيل حكومة التسوية التاريخية بين الإسلاميين والعروبيين واليساريين الاجتماعيين. وقد كتبت في هذا الغرض تدوينات عديدة، حاثا كلا من النهضة وائتلاف الكرامة والتيار وحركة الشعب إلى الالتقاء حول كلمة وطنية سَواء. ولكن يبدو أن أزمة ثقة عميقة تحفر أخدودا فاصلا بين النهضة من جهة وكلا من مناضلي حركة الشعب والتيار من جهة ثانية. ويبدو أنه لا حلحلة لهذه الوضعية إلا بتجاوز حالة أزمة الثقة هذه. بداية، فيم تتمثل عوامل انعدام الثقة ومظاهرها بين هذين الطرفين. النهضة من جهة وحركة الشعب والتيار من جهة ثانية؟

تتمثل هذه العوامل والمظاهر في ما يلي:


أولا- من جهة العلاقة مع حركة الشعب:

1- مشكلة العلاقة مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، الذي له تاريخ مصادمات مع الأنظمة القومية في مصر وسوريا وليبيا. فإن كانت الصورة تبدو غير واضحة في الحالة المصرية لتبادل كل من الطرفين الاتهام ببدء الاعتداء في مصر (حادثة المنشية، على عهد الراحل عبد الناصر)، مع ضيم كبير في تحميل المسؤولية على الإخوان، تمثل في سجن وتعذيب المآت منهم وإعدامات طالت أكبر رموزهم مثل الشهيد سيد قطب رحمه الله، الذي لم يشفع له تدخل الرئيس التونسي بورقيبة لدى الرئيس جمال عبد الناصر، لإنقاذه من حبل المشنقة، بعد قضاءه عشر سنوات في سجن ليمان طرة بسيناء، كتب فيها تفسيره الشهير للقرآن الكريم، في ظلال القرآن،

بحيث غدت محنة الإخوان على يد نظام عبد الناصر واحدة من أكبر محن المعارضين السياسيين في القرن العشرين، فإن الوضع بين الإخوان والسيسي أكثر وضوحا: انقلاب سافر على الديمقراطية، إثر ارتكاب نظام السيسي لمجزرة مريعة بحق آلاف المعتصمين في ميدان رابعة، ثم اعتقال الآلاف منهم وتعذيبهم، ليصل الأمر إلى استشهاد الرئيس المنتخب ديمقراطيا محمد مرسي رحمه الله في قفص الاتهام، لهول ما عانى من التنكيل والإهمال الصحي.

أما الحالة السورية القريبة التي هي قريبة منا زمنيا أيضا، فقد وضعت الإخوان في وضعية محرجة للغاية بتحولهم عن المعارضة السلمية إلى المعارضة المسلحة وبتوريط من فاعلين دوليين معروفين، بالرغم من ثبوت دموية النظام السوري في مواجهة المظاهرات السلمية للشعب السوري في بداية الثورة السورية، التي سرعان ما انقلبت إلى حرب أهلية، فإلى حرب كونية شارك فيها مقاتلون من أكثر من ثمانين جنسية.

ولم يتردد الإسلاميون والقريبون منهم في تونس في مناصرة وجدانية لإخوانهم في سوريا وجلجلت حناجر الخطباء على المنابر الجمعية بالدعاء على النظام السوري ومن أجل نصرة الإخوان عليه. ومن هنا قامت شبهة تسفير الشباب لمقاتلة جيش النظام في سوريا، على حركة النهضة. وهو الأمر الذي لم تثبته الأجهزة الأمنية التونسية إلى حد هذه اللحظة.

هذه إذن مسألة أولى يجب توضيحها بالكامل قبل المرور إلى تطبيع العلاقة بين النهضة وحركة الشعب المناصرة لنظام بشار الأسد في سوريا: والتوضيح مطلوب من الجانبين في الحقيقة: أي قضية تسفير الشباب إلى سوريا من الجهتين، سواء من قاتل ضد النظام السوري أو معه، لأن المسألتين تجمع بينهما قضية واحدة وهي الموقف الجوهري من الديمقراطية.

2- مشكلة العلاقة مع "الاستعمار" وأشكاله الممتدة في الزمن الراهن: وهذا يعود بنا إلى الصياغة القومية التونسية للمسألة، وهي الموقف من المحنة اليوسفية، ومن الصيغة المنقوصة أو المشكوك فيها لاستقلال البلاد التونسية، وما يتبعها من مسائل، مثل مسألة الثروات الوطنية في الجنوب التونسي خاصة، خصوصا مع وجود الفصل 13 من دستور الجمهورية الثانية.

لا نعثر في أدبيات حركة النهضة على مواقف صريحة من هذه المسائل المترابطة: المحنة اليوسفية، ووثيقة الاستقلال، والثروات الطبيعية والعلاقة مع الفرنسيين، نضيف إليها مسألة تجريم " التطبيع" مع الكيان الصهيوني.


ثانيا- من جهة العلاقة مع التيار:

توجد للنهضة ثلاث مشكلات مع التيار:

1- المشاركة في التستر على ملفات فساد وارتكاب الفساد ذاته. هذه مسألة تبدو لنا يسيرة الحل، وذلك من خلال مطالبة المدعي بالبينة. حالة واحدة كبيرة ظاهرة للعيان، وهي غض النهضة الطرف على المصالحة الإدارية مع الفاسدين(انسحابات بالجملة من جلسة التصويت على القانون المتعلق بهذه القضية). فهل يتمسك التيار بها كذريعة لعدم الدخول في شراكة مع النهضة؟

2- التوجه الليبيرالي واليميني المحافظ للنهضة الذي يمس بحسب التياريين كلا من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للتونسيين، ولمقوم من مقومات المواطنة وهو المساواة بين الجنسين.

فإذا كان مشروعا لمناضلي التيار الحرص على تكريس توجه ديمقراطي اجتماعي وخيارات اقتصادية تضامنية وشعبية، ومن حقهم المطالبة بضمانات لتكريس هذا التوجه في حكومة الوحدة الوطنية المنشودة، فإن مسألة المساواة في الميراث تتجاوز بكثير حركة النهضة، لتشمل عموم التونسيين ذوي الأغلبية المحافظة، بدءا برئيسهم ورئيس كل التونسيين الجديد.

3- قضية اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي وقضية الجهاز السري: هذه أيضا ليست قضية سياسية في حقيقتها، بل قضية من مشمولات القضاء وأنظاره. وهو عين موقف رئيس الدولة الجديد. ولذا قاعدة التعامل هنا معلومة، والدكتور محمد عبو يعرفها جيدا، وهي: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وليس العكس.

إذن، من القضايا الخلافية الخمس المثارة، نجد أن حركة النهضة مطالبا فعلا بتوضيح موقفها من خلال ندوات تعقدها وأدبيات تصدرها، من القضايا الآتية:

1- قضية استقلال البلاد: كامل أو منقوص؟ حقيقي أم صوري؟ وماذا علينا فعله كتونسسين قيادة وشعبا لاستكماله ولتكريسه الفعلي؟ وهو ما يطرح مباشرة قضية السيادة الوطنية، التي تحيل في ما تحيل إليه، إلى القضية الثانية:

2-الثروات الطبيعية وملف الطاقة، والسياسات الواجب اتباعها من الحكومة القادمة حيالها.

3- المنوال التنموي الجديد المزمع تطبيقه والسياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الواجب صياغتها وتنفيذها.

4- الخطة الوطنية الواجب وضعها وتنفيذها لتطبيق الحوكمة الرشيدة وتعميمها، والمستوجبة بداهة لوضع خطة لمقاومة الفساد والفاسدين وتطبيقها. ومن التفصيلات المتعلقة بذلك هو الحرص على شفافية المعاملات المالية لحزب النهضة والتصريح بمداخيل مسؤوليه الكبار وكل من سيتولى منهم مسؤولية في الحكومة القادمة ومختلف الأجهزة التابعة لها، شأنهم في ذلك شأن كل مسؤول حزبي وكل مسؤول سياسي يشترك حزبه في هذه الحكومة المرتقبة.

إضافة إلى هذا يأتي لاحقا التفاوض حول كل الضمانات الضرورية لتطبيق سياسة حقيقية وإجراءات فعالة لمقاومة الفساد والتهرب الضريبي وتبييض الأموال وكل ما له صلة بالحوكمة.

5- إصدار موقف واضح من الاستيطان الصهيوني للأراضي العربية.

هذه إذن القضايا والمسائل التي يجب حلها وتوضيحها، بديلا عن انتظار حصول معجزة تسوية تاريخية على طريقة "بوس خوك وسامحه". وإلا فستبقى أزمة الثقة تراوح مكانها. أما حركة الشعب فهي مطالبة بتوضيح موقفها من نظام السيسي المجرم ومن مسألة الديمقراطية أيا كان النظام ممانعا أو غيره. كما أن التيار مدعو لتوضيح موقفه من دعمه للاعتداء على القضاة من قبل لجنة الدفاع عن شكري بلعيد، ومن مدى احترامه لمقدسات الشعب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات