رسالة إلى وزيرة الثقافة لطيفة لخضر

Photo

سيدتي معالي الوزيرة،

بداية، وحتى تكون المُفردات بسيطة واللّغة مفهومة والمعاني غير قابلة للتأويل، لن أقدّم لك نفسي بصفتي امرأة أو أنثى ولن أحاورك بوصفي نوعا اجتماعيا ولن أستعمل لمُخاطبتك المُقاربة الجندرية. فقط أنا مواطنة تونسية أنتمي إلى هذه الأرض الطيبة، وتجمعني روابط ثقافية واجتماعية بهؤلاء الناس، الذين تجاهلتهم النخبة السياسية والفكرية منذ دولة الاستعمار، وتعوّدت هذه النخبة أن تدوسهم بجهاز الإكراه وحذاء العسكر حين يغلب منطق العنف وتدوسهم بجهاز الأيديولوجيا وحذاء الحداثة حين يغلب منطق الهيمنة.

معذرة سيدتي الوزيرة سأحاول جاهدة تكلّم لغتك واستعمال أدوات تحليل يُفترض بها أن تكون منهجيا ونظريا أقرب إليك منّي. فأنت على ما يُقال "حداثية"، وأنا على ما يبدو "رجعية"، لو أحدّثك بلغتي قد تبدو لك، مرجعيتي الفكرية جامدة ومُتكلّسة إذ هي بالنسبة للحداثيين أمثالك "نصوصا مُقدّسة ثابتة المعنى والدلالة"، وثقافتي تقليدية ركيكة ولُغتي غير مُواكبة للغة العلم والتكنولوجيا. أمّا معاليك فأنت وزيرة تتبنّين قيم الحداثة وثقافة الأنوار وتحملين فكرا مرجعيته نصوصا مُتحرّكة ومُتطوّرة المعاني والدلالات. فقيم "الحداثة"، التي ربّما تحفظينها أو حفظتيها ذات يوم عن ظهر قلب، يروج أنّها صالحة لكلّ زمان ومكان، أمّا مرجعيتي وهي المُجتمع - ثقافة ودينا ولغة وأعرافا وتقاليدا- تجاوزتها السياقات ولم تعد مواكبة لمجتمعات عصر الأنوار ولا لروح "الحداثة".

شاءت الأيادي المُرتعشة أو لنقل شاءت إرادة التوافق، أن يهيمن النمط على أجهزة الدولة ممّا جعل "حداثتك" قدرا مُقدّسا وغير قابل للنقد أو التقييم، بينما باتت مرجعيّتي موسومة بالتخلّف إلى حدّ الازدراء والتدنيس.

سيّدتي،

في جميع الأحوال أعرّفك بنفسي، أنا أنموذج لثلاثة ملايين (أكثر بكثير أو أقل بقليل) مواطنة تونسية، نَشَأْتُ في نفس المدارس التي نشأت فيها بنات وأبناء جيلي، ودرست في نفس المعاهد العمومية التي وفّرتها لنا مشكورة "دولة ما بعد الاستعمار" بمناهجها المُتفرنسة شكلا ومضمونا، لكن الحمد لله اكتسبت عقلا نقديا من جلوسي في مدارج الجامعة التونسية. درست العلوم الاقتصادية وقرأت رأس المال لماركس واقتصادنا لباقر الصدر ولم أجد فوارق كبيرة. واكتشفت عند سارتر المُثقّف الكلّي، وعند بيار بورديو المُثقّف الجماعي، وعند فوكو المُثقّف الخصوصي ، وتعلّمت من دفاتر السجن لغرامشي كيف يتحدّد مفهوم المُثقّف وكيف يتميز عن مُحترفي الأنشطة الثقافية، وقرأت كذلك في رسالة إيميل زولا عن قضية دريفوس وفهمت في سياقات الحداثة كيف يكون المُثقّف مُلتزما بقضايا مُجتمعه وأن يكون صاحب موقفا ورأيا قد يُغيّر من خلاله بوصلة العالم ووجهة التاريخ.

قرأت الكثير عن الوعي الحاد للمُثقّف وواجب التزامه بنشر الحقيقة بين الناس في كلّ قضية تهمّ المُجتمع أفرادا وجماعات، لأنّ حسب هؤلاء المُفكّرين جميعا (وأظنّك تنتمين إلى نفس فكرهم الحداثي) الالتزام بالقيم الكونية للإنسانية هو الخاصية النوعية التي تميّز المُثقّفين (من غير المُحافظين) عن تقنيي الثقافة ومُحترفي الأنشطة الثقافية.

تبيّن لي من خلال اطلاعي الموجز على أهمّ تعريفات التيارات الحداثية لمفهوم المُثقّف أنّ "الالتزام" هو ما ينقل مُحترف الأنشطة الثقافية أو (العرابني بلغتنا) إلى مُثقّف بالفعل وليس بالقوّة. ويُعبّر ذلك الالتزام عن ذاته في أنماط التدخّلات والأفعال كاتخاذ المواقف الصارمة خاصة حين يتعلّق الأمر بقضايا المُجتمع. وهذا الالتزام يتطلّب في نفس الوقت الكثير من الشجاعة والكثير من العقلانية.

لكن حين نُدقّق في ما قدّمته وزارة الثقافة إلى المُجتمع التونسي منذ تشكّل هذا الكيان الذي يُطلقون عليه تسمية "الدولة الحديثة" إلى يوم الناس هذا لا نجد غير الإرغام والسيطرة التي تُمارسها الدولة الحديثة سواء بالعنف الذي تُمارسه أجهزة الإكراه أو بالهيمنة التي تُمارسها بالنيابة أجهزة الأيديولوجيا.

فالدولة، يا سيدتي، التي تمثّلين إحدى أهمّ أجهزتها الأيديولوجية تحوّلت إلى مُجرّد آلة لإنتاج الأوهام وضروب الإستبلاه، فهيمنة أيديولوجيا هذا النمط الحداثي الذي تعفّنت مفاصله حقّ تجاوزه لأنه بات يُنتج التأخّر والتخلّف. ومنذ تولّيك هذه الوزارة ونحن نمنّي النفس بظهور بوادر حلول لمواجهة هذا التأخر التاريخي الذي أصبح يمثّل إحدى الإشكاليات الكبرى التي تواجه السياسيين والمُفكّرين على حدّ السواء. لكن للأسف ما لحظناه هو تخبّط الوزارة في تحديد مواطن الخلل، وتيه مركّب في تحديد مُرتكزات إنتاج ثقافة مُنسجمة مع تحدّيات الواقع الجديد الذي يعيشه المُجتمع التونسي بعد ثورة 17-14.

سيّدتي،

إنّ المُثقّف (الذي يذهب البعض إلى التبشير بموته وانتهاء وظيفته) يُفترض به أن يساهم في صناعة الأشياء والوقائع الاجتماعية والتاريخية وقيادتها، بشكل واضح وجلي. فالمفروض أنّ المُفكّر يُبدع التصوّرات وأنّ المُبدع يُنتج القيم. لكن وللأسف المؤسّسة الموكول إليها القيام بمُهمّة تسيير الشأن الثقافي في تونس تقدّم سلعا رمزية مُنتهية صلوحيتها غير صالحة للترويج ولا للتسويق.

يبدو أنّ أجهزة الدولة حين تُهيمن عليها الأيديولوجيا، ويغيب عنها المناخ.

الحضاري ولا يُسمح للمجتمع وجماعاته بالمُشاركة في الحوار حول قضاياه مهما كان نوعها، يستحيل إنتاج ثقافة تُحيل على قيم "الحوار" و"النقاش" و"التسامح" والـ "مع" والـ"الضدّ".

وإذا ما دقّقنا فيما تروّجه وزارة الثقافة من سلع "ثقافية" سواء خلال مهرجان قرطاج الدولي أو أيّام قرطاج المسرحية أو السينمائية، لا نُعاين أي مجهود من طرف القائمين على مُختلف المؤسّسات التي تعود بالنظر لوزارة الثقافة ولا من طرف صانعي السياسات الثقافية لنشر القيم الكونية الإنسانية ولا حتى القيم الخاصة القومية أو الوطنية.

أخيرا سيّدتي، أعلمك أنّنا كشعب بدأ يتجاوز حالة الإستبلاه، نعلم جيدا بأنّ وجود مُعسكرين مُتصارعين سياسيا وأيديولوجيا في تونس، وأنت سيّدتي الوزيرة تنتمين إلى أحدهما، هو الذي ساهم في انشطار الحقل الثقافي في المُجتمع التونسي إلى نصفين، نصف "حداثي" ونصف تقليدي، حيث نجد أنّ خلف هذا التيه والخبط العشوائي داخل الوزارة سواء في عهد حكومة الترويكا أو في عهد حكومة النمط تختفي مصالح ورهانات اجتماعية وسياسية عميقة، جعلت الحقل الثقافي حلبة للصراع والنزاع والتنافس غير النزيه من اجل بناء أسس هيمنة نمطكم (هم) على المُجتمع برمّته عبر التحكّم في أجهزة الدولة التي تعوّدتم دوس شعوبكم بحذاءها.

رغم هذا الأفق الضيّق لممكنات التعامل مع الشأن الثقافي في زمن حكومة النمط، فإنّ رجائي الأخير سيدتي الوزيرة، وهنا أتحدّث بوصفي امرأة، أن تقومي بإعفائنا من مشاهد الإذلال ومن مظاهر الأنوثة المُنمّطة وألاّ تستعملي جسد "الأنثى" كسلاح لتأجيج معركتك الأيديولوجية، واستفزاز خصومك التاريخيين بتعرية "العرابنية" والباعة غير النظاميين من "مثقّفي" النمط الذين تستقبلينهم على أرض تونسنا الخضراء. وأنصحك بإعادة قراءة كتاب بيار بورديو "الهيمنة الذكورية"، لعلّك تنتبهين إلى أنّك لم تتحرّري بعد (أنت وجماعة النمط المحيطين بك) من سجن الهابيتوس وساهمت في إعادة إنتاج الهيمنة الذكورية، فالجسد حين لا نُحسن التعامل معه يتحوّل إلى قفص نسجن بداخله ذواتنا وأداة تتحكّم في إرادتنا.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات