أسماء البلتاجي ، مرّة أخرى : مراثي الدّهر

Photo

مجدّدا أكتب عن الحبيبة الخالدة أسماء البلتاجي .. و أنا لا أكتب عنها عادةً إلّا باكيا .. فأرجو أن لا تقرؤوا كلماتي إلّا باكين .. فإن لم تقدروا فآخشعوا و تظاهروا بالبكاء .

***

ذكرتكِ أسماءُ فسالت دموعي …… …. و ليست لغير أسماء دموعي تسيلُ

لستُ شاعرا و لكن هذا ما كنتُ أدندن به هذا الصباح الّذي عشته في عالم أسماء .. فمن كان فيكم شاعرا أو عالما باللغة العربية و العروض فلينظر في تصحيح هذا البيت العفويّ و ليبني عليه قصيدة أسماء المرصّعة بالحنين و الإبتهالات و الدّموع

***

داهمتني اليوم ذكرى أسماء البلتاجي و آقتحمت عليّ روحي و حياتي و وجداني .. فتُهت خلف روحها ألتمس شعاع النّور الّذي يفيض منها ليضيء أكثر المجرّات إبتعادا في متاهات الكون العظيمة .

و أسماء أسمّيها إسما لكلّ الأحلام و الآلام .. فهي الأوطان الغادرة .. و هي الذّكريات الحزينة .. و هي دموع العاملات في الحقول .. و هي إبتهالات المقاتلين قبل الهجوم .. و هي الحبيبات المنتظرات خلف الرّبوة فرسانَ قلوبِهِنّ الطّاهرة يعودون أكفانا و أشلاءً و دموع ..

و أسماء .. أسمّي بها البراءة السّائلة كالعسل المُصفّى من أشهى العيون

و أسماء .. هي أختي صفاء هادرة في الساحات .. و صائمة في الحرّ .. و قائمة في آخر الليل تنادي الله في الخلوات أن يا ربّ الأرض و السماوات كن لأسماء البِرَّ و العطاء و الحبيب الّذي ليس كمثله جزاء .

و أسماء .. أنادي بآسمها على الشّهداء جميعا فيتحلّقون حولي و يرتّلون سورة "مريم " و إنّي لعَشَّاقٌ لمريم و بكّاءٌ عند القرآن .. و بكّاءٌ حين تحضر أسماء أو تغيب فيحضر بدلا عنها كلّ الشهداء .

و أسماء .. هي الرقّة السَّكرَى .. و هي نجوى الأحبّة .. و الماء للعطشى .. و هي المنُّ و السّلوى .

و أسماء لمن لا يعرف .. حبيبةً مضت بين عصرين .. فما قبلها كان الزّمن ما قبل أسماء .. و ليس بعدها إلّا الزّمن ما بعد أسماء .. و هل بعد أسماءُ يا روح الزمن من زمنٍ ؟؟

و أسماءُ الآن هي الزّمنُ .

يا اااااااااا أسماء .. أنادي عليكِ في البراري و الصحاري و البحار .. فآروي عطشي و قولي حين يمرّ بكِ صوتي : مهلكَ يا أيّها المنادي .. سأنهي صلاتي و أجيبك .. فيأتي الجوابُ نورا و بركةً و أزهارًا .

يااا أسماء .. أجيبي المنادي .. و تعالي أضمّد بروحك جراحاتي … فتلك الرّصاصة يا حبيبة فلبي قد نفذت منك و آستقرّت إلى الابد في روحي .. رصاصًا و آلاما و آهاتٍ فليس غير الله يعلم ماذا بقي منّي حين رأيتكِ تسقطين بهدوء كما الرّذاذ .. كما الطفولة .. كما الأحلام فوق الأرض الّتي ضاقت ببرائتك و طُهركِ أيّتها الأنقى من الماء .. و الاحلى من كلّ الأوطان .

ياااا أسماء .. اليوم ذكرتكِ .. فغادرت مقرّ العمل على درّاجتي النارية .. كنت أريد أن أبكي فما ذكرتكِ يومًا إلّا باكيا .. و لذلك لا أدري كيف خرجتُ عن الشّارع الرئيسي الّذي أعود منه عادة إلى منزلي و سلكتُ طريقا فلاحيّة خالية من النّاس .. كانت دموعي تنهمر كالسّواقي ولم أفعل كما جرت العادة حين يداهمني البكاء في الشوارع و المقاهي فأتصنّع الإبتسامات و أمسح الدّمعات و أخفي رأسي عن العيون .. بل بكيتكِ و نسيتُ العالم ..و رفعت رأسي رأسا عزيزة شامخة تبكي زهرة الشّهداء و أيقونة الأطفال و عبير الأوطان .

و حين آشتدّ بي البكاء ما عدتُ قادرا على السّياقة ، فقد كان الكون أمامي ضبابا حتّى ظننت أن قد فقدت بصري فأوقفت درّاجتي و جلست تحت شجرة صنوبرٍ عالية أنحبُ كعاشق سيّء الحظّ قد كواه الحبّ و أدمت قلبه المحن و أضناهُ الأسى .. و قد كانت كلّ عصافير العالم ترفرف بأجنحتها فوقي .. و جاء النّحل و النّمل و دوابّ الأرض الحزينة .. كلّ أولئك شاركوني البكاء يا أسماء يا صنوبرة الأسى .. ياروح الضّنى .. يا أضغاث المُنى .

و لقد صعدتُ فوق الشّجرة يا أسماء .. و حاولتُ أن أراكِ في سماوات الوجد روحا من الزمرّد و الريحان .. و قلتُ : ما تتركني أسماءُ وحيدا في الفضاء .. أدور في فراغات الحنين .. أكفكف دموع الثائر المهزوم .. و أنوح غدرات الدّهر المجنون .

و لقد أبصرتُ سنواتكِ السّبع عشر في مرايا الروح .. سبع عشر نجمة هنّ أكبر النجمات و أكثرهنّ نورا يتلألأنَ في قناديل معلّقة بعرش الرحمان : نورا من فوقه نورٌ من تحتهِ نور ..

في الليلة الّتي سبقت موتها .. كتبت سيّدة الزمان أسماء البلتاجي ذات ال17 ربيعا على صفحتها في الفايسبوك ما يلي و كان ذلك آخر خطاب تكتبه للعالم : " «هم بَيَّتونا بالوتير هُجَّداً، وقتلونا ركَّعاً وسُجَّداً، وهم أذل وأقل عددا، فادع عباد الله يأتوا مدداً..في فيلق كالبحر يجري مزيداً»"

حبيبتي أسماء كانت وحيدة أباها فإنّ رجلا ينجبُ مثلها كان حقًّا أن لا ينجبَ معها و لا بعدها .. و قد عاشت شديدة الإيمان .. راسخة التّقوى .. خرافيّة البراءة .. عميقة الطّفولة .. صلبة المواقف حتّى بلغ بها الأمر أن خرجت في مظاهرات خالفت فيها نهج الجماعة الّتي تنتمي لها .. مثل أحداث شارع محمد محمود الّتي إمتنع الإخوان عن المشاركة فيها أيّام الثورة و بعد الإطاحة بمبارك بفترة وجيزة .

كانت تدرس بالثانوي و تحلم أن تدخل كليّة الطبّ و تشارك في نشاطات الإغاثة الدوليّة .. فأسماء ليست مثل هذه الكائنات إناثا و ذكورا الغارقين في الجّال و السِّلفي و الضحكات البذيئة و الماكياج و ترّهات الزّمن الماسخ الممسوخ

أسماء قضّت رمضان 2013 في رابعة تقيم الليل و تتهجّد تضرّعا لله أن يكشف الغمّ عن الأمّة و تصوم النهار في الحرّ و الرّعب حيث كان جيش الطغيان الحداثي يحاصر المعتصمين و يمنع عنهم المؤونة و يعدُّ العُدّة لتقتيلهم إعلاء لمذاهب الشيطان و معاداة لروحانية الحبّ الّتي شرّعها الرّحمان .

صبيحة 14 أوت 2013 إقتحمت الدبّابات و الجرافات إعتصام رابعة في مجزرة مروّعة هي الأعنف و الأكثر دمويّة في العقود الاخيرة عبر العالم .. و آنتشر فوق الأبنية مئات القنّاصة ظلّوا يطلقون النار على العزّل نساءً و رجالا و أطفالا دون شفقة و لا رحمة .. و هناك في قلب المعركة بين أهل الله و أهل الدّنيا .. في ذاك الخطّ الفاصل بين أحلام التحرّر من الطّغيان و قيود الإستبداد … هناك كانت أسماء .. و يحكي النّاس أنّها لم ترتبك و لم تهرب بل ظلّت ثابتةً تتابع الجرحى و تشارك في الإسعاف ..



و هناك كان قلبي عاريا من اللّحم .. يرتعش كعصفور بلّلته الأنواء .. و أحرقته الشّموس .. و كنتُ أتابعها بشغف العاشق المُلتاع .. و سمعتها حين قالت آخر كلماتها : «أثبتوا فإن النصر قريب، ولا تتركوا الثورة للعسكر» .. ورأيتها بكامل اليقظة حين فكّرت في الإنحناء أرضا لتلتقط قلبي المعفّر بالتراب و الغارق في النّحيب حين كانت رصاصات الغدر أسرع فآخترقت قلبها ليسقط مغشيّا عليه بجانب قلبي الّذي كان يعوي كذئب جريح ..

و أسماء رائحة القيم .. و ياقوتة الأمل .. و سمسم الأحلام ..

و أسماء يا أسماااء .. ليس لكِ إسمٌ و قد أطلقوكِ على كلّ شيء : فالبيادر و الشوارع و الذكريات و الأزهار .. كلّها أسماءٌ .. و الليالي .. و الأماني .. و أعياد الميلاد كلّها أسماءٌ .. و نقول ما أسماءُ الصبية فيأتي الجوابُ : لهم من الأسماء ليلى و لمياء و لمين و عادل .. فقد كان العالم صامتًا حتّى جائت أسماء فكانت المعاني و الأفكار و الاحلام و الرؤى .. كلّها أسماء .

و أبكيكِ أسماء كما لم يبكي حبيبًا حبيبَهُ ..

أبكي فيكِ جميع الضحايا منذ الجريمة الأولى حتى نهايات الإنسان ..

أبكي فيكِ أحزان اليائسين و الحيارى و المقهورين ..

أبكي فيكِ صابرين ذات الألم العظيم .. رمت في قلبي جبال الحزن الثقيلة و آختفت من العالم إلى الأبد ..

أبكي فيكِ وليد درّة المشرّدين كان ذا 17 عاما مثلكِ يبيعُ الأزهار للاثرياء ثم يجتمع آخر الليل في العراء صحبة كلّ مشرّدي البلاد فيبكون سويّا بكاءً يطلقونه رصاصا في صدر هذا العالم القذر الّذي لم يرمي و لو لليلةٍ واحدة فوق تلك الاجساد الذّابلة غطاء الحنان الوثير .

أبكي سَلمى الّتي كلّمتني منذ شهر فأغرقتني في الدّموع حتّى ماعدتُ أُطيق الكلام : من يومها و أنا أفكّر في همومها و أكفكف دموعي عسى أن يرحم الله بكائي فيرحمها بالفرج و النّجاة ..

أبكي فيكِ كلّ أصحابي الّذين مزّقت آلامهم أحشائي .. منذ حسيب آبن عمّي أحد كبار المهمومين في التاريخ المعاصر الّذي كانت دمعته واسعة و شاسعة و فسيحة حتّى لتكاد تسعُ العالم .. و مراد الهادر بالأسى .. وصدر المنهمر بالرقّة .. و شاكر الغارق في الحيرة .. و ماهر الصابر على الأذى .. و عليّ الصامد المُكابر تمرُّ به الهموم كلمى هزيمةً و وحهه وضّاحٌ و ثغرهُ باسمُ ..

أبكي فيكِ يا أسماء .. هذا العالم الدّاعر الّذي باعت فيه أمّي ماجدة الماجدات في سنوات الفقر المجيدة الكثير من السجائر و البيض الطازج لعُتاة المجرمين في ميناء الصّيد البحري بسوسة .

و أبكي فيكِ الفارس ياسين العياري يوم خروجه من السّجن .. يومها لم أتمالك نفسي في العمل أمام صورته مع إبنه الصغير فور خروجه من المحنة .. فآنهمرتُ بالدموع نيابة عن كلّ الآباء و كلّ الأبناء الصّغار ينتظرون أبا على الجبهة أو في الإعتقال ..لو أنّه يعود ليملأوا البيت ضجيجا و حبورا ..

و بكيتُ فيكِ الزعيم أردوغان حين قرأوا عليهِ في ذاك البرنامج التلفزي رسالة أباكِ من السّجن في ذكراكِ الأولى فهاجت نفسه بالبكاء ..



و أبكي فيكِ أباكِ الزعيم البطل الهُمام محمد البلتاجي الّذي قتلوا في يومٍ واحد أحلامه الوطنية و آبنته الوحيدة و سجنوه هو و آبنه : كلُّ ذلك ربّاه في يومٍ واحد و الرجل صامد صابر لا ينطقُ إلّا ما يُرضِي الله ..



و أبكي فيكِ كلّ من أحبّوكِ و رفعوا صوركِ في القارّات الخمس .. و بكوا كلّما داهمتهم ذكراكِ .. و آعتبروكِ دوما رمزا للبراءة و العطاء و الإخلاص .

آآآآهِ يا أسماء … لو تعلمين … آآآهِ لو تعلمين

أنا نضال السّالمي جئتُ لهذا العالم لأزرع في النّاس روحانيّة البكاء .. بعد أن جفّت مآقيهم و يبست قلوبهم .. و أداروا ظهورهم للمعنى الإنساني .. و أرادوها حياةً فارغة من مباهج الحقيقة و من روحانيّة المحبة .. و غرقوا في تفاهات المادة و حوّلوا كلّ القيم إلى سلع تباعُ و تُشترَى ..

أبكي فيك الإنسانيّة الّتي عوّضت قصص الحبّ و رحلات التّفكير و فسحة الإيمان .. بنزهات التسوّق و المنافسات المحمومة حول المظاهر و السّخافات .




أسماء .. يا حبيبة روحي .. لقد كان العالم قبلكِ نثرا حتّى آخترقت تلك الرّصاصة صدركِ ..فصار الكون كلّه شعرا . .. و ما هذا القول بالنّثر و لا هو بالشّعر .. إنّما هي التّراتيل أرتّلها في الصّباحات المزدهرة بغيابكِ المطلق : دموعا أرتُقُ بها جراحا لا تندمل .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات