ورقات من ماض لم ينته بعد.. (12) وقفة مع الفنّ السّابع..من نوفمبر!

Photo

"الخرق حينما يكون مطلوبا يصبح بدوره إذعانا"1

هذا هو الجانب "القانوني" من الخطّة.. أماّ جانبها "الثّقافي"، فإنّه كان يستهدف "تجفيف منابع الظاهرة الدّينيّة"، ومنابع الوعي، وأيّ شكل من أشكال الخروج عن القطيع بصفة أعمّ؛ وهذا هدف يسري على المدى الطّويل، أُنيط بعهدة "حداثيِّينا" السّهر على إنجازه تحت "سامي إشراف سيادة رئيس الدّولة"؛ فكانت "نوبة" وكانت "حضرة"، وكانت السينما النّوربوزيديّة وما شابهها، الّتي تداخلت فيها عقد البرجوازية الصّغرى – الحقيقيّة - لثلّة من المخرجين بما حسبوه عقدا للشّعب، لتفرز "بزناس" و"عصفور سطح"، و"ريح السدّ" و"بنت فاميليا"، فأصبحت محاولات "البسيكاناليز" الجماعيّة مهرجانا "للعهر والدّروشة", لا أدلّ على ذلك إلاّ طوابير الجنود من قوّاتنا المسلّحة (أو المكلّحة!) أمام قاعات السّينما..

وأنوء بنفسي أن أكون من دعاة تسليط الرقابة على الإبداعات الفنّيّة، حتّى لا أُفهم خطأً. ولكن ما قيمة الإبداعات الفنّيّة حين تنشأ في ظلّ سلطة قمعيّة تحرسها وتدعمها وتسعى إلى نشرها وتتباهى بها كثمرة لسياساتها؟ ما قيمة العمل الفنّي - مهما كان طلائعيّا وتقدّميّا ورائقا في أعين الأنتليجنسيا الفرنسيّة! حين يتحوّل إلى بوق دعاية لنظام بوليسي، ولرجل طاغية؟ لاشيء.. بل يصبح مشاركة في الجريمة.. يعاقب عليها التّاريخ.. فلو نظرنا إلى الإنتاج السينمائي التونسي خلال "العهد الجديد" لخرجنا بالاستنتاجات التّالية:

- تحسّن ملحوظ في الجوانب التّقنيّة تنمّ على ما صارت تنعم به هذه السينما من إمكانيّات، نتيجة دعم السلطة لها وكذلك نتيجة العمل بالاشتراك مع شركات إنتاج أوروبية لاسيّما الفرنسيّة منها. والمثل التونسي الشعبي يقول "ما ثمّاش قطوس يصطاد الْ ربّي" - أي مجانا، أو لله في سبيل الله!

- تركيز هذه السينما على مواضيع محدّدة، بشكل يدعو للحيرة والتّساؤل: هل زالت كلّ مشاكل المجتمع التونسي ولم تبق إلاّ المسألة الجنسيّة مستعصية عن الحلّ لتهتمّ بها هذه السينما كلّ هذا الاهتمام؟

لا ينكر أحد أنّ الجنس معضلة في مجتمعاتنا.. وفي كلّ المجتمعات المحكومة بعدميّة ما بعد الحداثة2 ؛ ولكن من الصعب جدّا - من النّاحية السيكولوجيّة والبيولوجيّة - حدوث استنهاض ما ونحن في مؤسسة الرعب والحزن بين مخالب البوليس السيّاسي.. من رابع المستحيلات تخيل جسد أمرآة مغري والجوع ينهشك نهشا.. ومن المستحيل كذلك أن تُبلغ امرأة أقصى درجات اللّذة، فتعتبرك رجلا وسيّدا للرّجال وأنت تجرّ عصا الذلّ والمهانة صباحا مساءا.. ذلّ أمام العَرْف يستغلّك، وذلّ أمام شرطي المرور يبتزّك، وذلّ أمام صاحب الدّكّان يكرديك أو لا، وذلّ عند شبّاك البريد أشرب ولاّ طيّر قرْنِك، وذلّ في المقهى أمام من أعارك ثمن القهوة بالأمس..

من السّهل جدّا عرض بضعة أكداس من اللّحم الأنثوي وعشرات من الأرداف والأَثْدِ الثقال مطلية بالطَّفَلِ، والكلّ معروض، في أجواء بخاريّة، على مصطبة "بِيتْ السخون" لحمّام مُظلم.. عمليّة استجداء لإكزوتيسم رخيص الثمن3 !

من السهل كذلك أن يكون افتتاح الشّريط بمشهد أُنطولوجي4 جدّ معبّر: امرأتان تخرجان من البحر جنبا إلى جنب، الأولى رشيقة أوروبيّة عارية إلاّ من بكيني، والثّانية تونسيّة تجرّ في الماء بصعوبة أذيال فستانها الطّويل وحجابها.. ثنائيّة الأصالة والتّفتّح.. الوافد والموروث..

من السّهل أنّ تتحوّل مدينة كاملة إلى أتّون متأجّج بكلّ العقد الجنسيّة: الشباب والأطفال لا مشغل لهم طيلة النّهار وجزء من الليل غير معاكسة الفتيات واستراق النّظر من ثقوب الأبواب وشقوق الجدران لما يحدث في عالم النّساء المغلق، هذا الفضاء العجيب الغريب؛ والتّاجر الكهل لا همّ له إلاّ مراودة زبونات جميلات متكسّرات في المشية والكلام، فإن لم ترتَدْن محلّه تصفّح عندها ما كان يخفيه على أحد الرفوف من المنشورات الجنسيّة؛ وربّة البيت المحترمة تجتمع في حلقة مع جاراتها ولا حديث لهنّ ولا مزاح إلاّ وكان موضوعه وبيت قصيده الجنس، فتتحوّل قفّة الخضر وما برز منها من "فقّوس" (خيار) و"قرع " وجزر وبطّيخ، إلى منبع إيحاءات إيروتيكيّة5 ، الكلّ وسط ضجّة من الضحك والغمز والهمز؛ وترى الإسكافي، وقد لعبت عليه "الدّوخة" بعد بضعة كؤوس من "البوخة"، حوّل دكّانه الصغير إلى مخدع يستقبل فيه زبونات تأتينه جاهزات في روبٍ داخلي تحت السفساري، فيغلّق عليهنّ الأبواب، لتتصاعد الآهات والقهقهات..

هل وطن هذا أم مبغى؟ (مظفّر النّواب)

هنا قلت لصاحبي مقاطعا:

- أراك غير منصف في حكمك على فنّانينا.. فهذه مشاكل موجودة بالفعل في المجتمع التّونسي!

فأجابني مستطردا:

- نعم. أنا معك في هذا.. ولكن لماذا لا ينتج هؤلاء الفنّانون بعض الأفلام البوليسيّة، في بلد أضحى فيه البوليس ينافس الأوكسجين؟ لماذا لا ينتج هؤلاء شريطا واحدا عن "المافيا" في بلد أصبحت فيه الجريمة ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد "الوطني"؟ لماذا لا "يقترف" هؤلاء - وهم دعاة ضرب المحرّمات6 - فيلما تدور أحداثه في إحدى فترات تاريخ تونس الممتدّ على مدى ثلاثة ألاف سنة على الأقلّ، والّذي يعجّ بالشّخصيّات والأحداث: علّيسة، حنّبعل، صلامبو، الحروب البونيقيّة، تدمير قرطاج، ماسينيسا، يوغورطة، سان أوغسطين، الرومان، الكاهنة، عقبة بن نافع، الفتوحات العربيّة الإسلاميّة، كُسيْلة، أسد بن الفرات، جوهر الصقلّي، الإمام سحنون، بني هلال وزحفهم وجازيتهم، ابن خلدون، سيدي محرز بن خلف، أبو الحسن الشّاذلي، المهجّرون من الأندلس، العثمانيون، الحسين بن علي باي، خير الدين باشا، علي بن غذاهم الماجري، العزيزة عثمانة، الاحتلال الفرنسي، الزواتنة، عبد العزيز الثّعالبي، محمد علي الحامّي، أبو القاسم الشّابي، خميّس الترنان، محمد الطّاهر بن عاشور، المنصف باي، الدّغباجي، فرحات حشّاد، صالح بن يوسف، علي شُوِرِّب، عتّوقة.. آن لكم أن تقرأوا التّاريخ قبل أن تقرّروا بجرّة قلم رميه في سلّة المهملات امتثالا لشيوخكم في الفكر، هناك في زوايا الحي اللاتيني.. آن لكم أن تعلموا بأنّ تونس ليست كما أنتم من مواليد الخمسينات.. لماذا لا ينتج هؤلاء "المبدعون" شريطا هزليّا واحدا؟ أو شريطا من أفلام الخيال العلمي؟ أو حتّى واستارن كسكسي (مقارنة بالواسترن السباقيتي)؟ فنبتعد شيئا ما عن أجواء العقد النّفسيّة وثنائيّة المرأة/الجنس؟

(يتبع)


1 Jean-Christophe Rufin, La Salamandre, Gallimard, 2005.

2 Nihilisme post-moderne

3 Exotisme bon marché

4 Une scène onthologique

5 Erotiques

6 Les tabous

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات