عن "المشروع الإقليمي" و"خفاياه": إيران بين روح الثورة وعقلانية السياسة.

يتكرر الحديث عن خفايا "المشروع الإقليمي الإيراني" كلما تصاعد الكباش الإقليمي بين إيران وإسرائيل. ورغم أن المتحدثين عن هذا المشروع لم يبادروا بعد لتحديد أهدافه وأبعاده الا أنهم يسارعون لتوظيف هذا المصطلح لتفكيك وتحليل المواجهة التي كانت تدور في الظل بين إيران وإسرائيل، والتي بدأت تخرج للعلن منذ سنوات وارتقت لدرجة الاشتباك المباشر فجر اليوم.

يجب أن نسائل أولا مصطلح "المشروع الإيراني" والغاية من استعماله:

تهدف فكرة "المشروع الإقليمي" الى تذكير جمهور "المتحمسين العرب" أن إيران لها مصالحها الإقليمية وهي ليست بالطهورية الكفاحية والنضالية التي تدعون. هذه الفكرة يتبعها دائما خطاب "استنهاض" الهمم العربية والدعوة لبناء مشروع عربي يبتعد عن إيران المسكونة "بهاجس المصالح القومية أو الإمبراطورية" وقليل أو كثير من التباكي على حال "الأمة العربية وشعوبها".

ولكن هل في القول أن لدولة ما مصالح هو استنتاج عبقري؟ في نهاية الأمر كل الدول تراعي في المجمل مصالحها فما بالك بدولة محاطة ببيئة أمنية معادية وكانت عرضة لعقوبات اقتصادية مؤلمة. لا بل إن أكبر المتحمسين لنظام الثورة الإسلامية تحدثوا بشفافية عن الخط الذي لا نزول تحته: ايديولوجيا الثورة لا يجب أن تقودنا لتدمير مكاسب "الدولة" عبر الحروب المباشرة.

جمعت إيران إذن وبشكل أثار إعجاب كبار الفلاسفة الغربيين بين روح الثورة وسياسة النسج على منوال الصبر لتصوغ مفهوم "الروحية السياسية" الذي يجسد شكل نظام الثورة الناشئ في بداية الثمانينات."متعصبون عقلانيون" كانت هذه هي الصياغة التي توافق عليها خبراء الاستراتيجيا وقراء تاريخ السير الإيراني على الخيط الرفيع للعلاقات الدولية.

هذه العقلانية جسدتها إيران على امتداد سنوات من خلال امتصاص الضربات الإسرائيلية العسكرية والأمنية وتدوير الزوايا مع الأمريكيين والأوروبيين أملا في الابتعاد عن المواجهة الشاملة وحفظ استمرارية "نهج الثورة" بما هو مسار يتطلب روافع اقتصادية وبيئة إستراتيجية تبقي إيران بعيدة عن دائرة النار.

أما الروح فقد جسدتها الخمينية السياسية التي دعت شيعة جبل عامل لمواجهة إسرائيل بأظافرهم ثم أمدتهم بالعتاد لاحقا قبل أن تشق الطريق للقطاع لتحكم طوق النار على إسرائيل.

يأتي هنا السؤال الأهم:لماذا يعادي نظام الثورة الإسلامية في إيران إسرائيل؟

ابتدعت العلوم الاجتماعية والفلسفة أدوات عدة لتفسير تصرفات البشر وأحد أبرز هذه الأدوات التي تبناها علم الاجتماع ،وبالخصوص التقليد الفكري الممتد من " فيبر" الى "ريمون بودون"، وهو الأسلوب التفسيري القائم على الغوص في الآخر لفهم دوافعه وتقديراته لنقيم آنذاك علاقة سببية بين الأفعال والظواهر. أي أننا باختصار معنيون بتطبيق ما يسمى بال"Principle of charity".

وان نحن أردنا أن نفكك العقل السياسي الإيراني ونظرته للمنطقة فبإمكاننا الخروج بالتقدير التالي:

يعتبر نظام الثورة الإسلامية في إيران ومحوره الممتد من اليمن إلى لبنان مرورا بسوريا والعراق أن كل ما تعانيه شعوب المنطقة الهدف منه هو ابقاؤها في دائرة الاستضعاف والوهن لحفظ التفوق الإسرائيلي ولتبقى يدها هي العليا(فكرة إسرائيل المنارة وسط إقليم الدمار والتخلف).

من هذا المنطلق يفسر العقل الإيراني كل ما جرى في المنطقة طيلة عقد "الربيع" وما شهده من ايغال في تفتيت الجوار الإقليمي لإسرائيل على أنه مؤامرة تهدف لاستنزاف المنطقة وشعوبها وتعويمها في صراعات داخلية يتم ضبطها لاحقا بإدارة أمريكية للصراع وبتدخل عسكري عار في "بؤر التوتر" لفض النزاعات.

صاغ العقل الإيراني اذن استراتيجيته الخاصة للأمن القومي، وهو يدرك أن إسرائيل قوية تقتضي حكما منطقة مستباحة أمريكيا وغربيا، وهو يعي جيدا أن منطقة وبيئة أمنية ممزقة ومخترقة غربيا تكون إسرائيل فيها القوة الوحيدة في المنطقة تعني تهديدا عسكريا وأمنيا مستداما على "النظام-الثورة" لا بل على كل دول جواره.

وفي هذا السياق يمكن أن ننزل ما قاله أبرز الناطقين باسم هذا المحور بأن "انتصار غزة" هو "مصلحة وطنية أردنية، مصرية، سورية ولبنانية" ويصبح آنذاك"مصلحة إيرانية" لا بل يمكن أن يكون مصلحة باكستانية وتركية الخ في إطار مفهوم وتمثل معين للعلاقات الدولية ألا وهو مفهوم "الجنوب الشامل"...لأن إسرائيل قوية من هذا المنطلق تعني حكما منطقة مستعبدة، تعني حتما دولا دون مكانة الدول على امتداد الإقليم وتعني أيضا ضربة معنوية لطموح صياغة هذا "الجنوب" الذي يناهض "عالم القطب الواحد".

ومن هذا المنطلق يقبل الإيراني كل التسويات والترتيبات الممكنة مع السعودية، تركيا، قطر وغيرها في إطار شعاره "المنطقة لشعوبها" وهو بطبيعة الحال لا يعتبر إسرائيل جزءا منها وفقا ل"مصلحته الوطنية" أو كما يحلو للبعض تسميته "المشروع الإيراني".

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات