منذ أن بدأت عملية طوفان الاقصى في السابع من اكتوبر الماضي، كررتُ وفي أكثر من مقال وفي مواقع عدة أن اسرائيل لم تكن تاريخيا مرتبكة كما هي عليه الآن سواء في قرارها ، أو في حدة تنازع بيروقراطيات هيئات اتخاذ القرار السياسي فيها ، بل وتفقد تدريجيا صورتها التي صنعتها لذاتها في الذهن العالمي لتجد نفسها متهمة حاليا امام ثلاث محاكم(العدل الدولية بدعوى رفعتها جنوب افريقيا بكل رمزيتها، وامام محكمة الجنايات الدولية بدعوى رفعتها المكسيك والتشيلي وامام محاكم سويسرية ضد رئيس اسرائيل بدعوى رفعتها هيئات المجتمع المدني السويسري)، ناهيك عن اتخاذها موقفا دفاعيا عن تصرفاتها الهمجية امام أقرب حلفائها، وامام رأي عام دولي بدأ يتشكك بشكل واسع ومتسارع في الرواية الاسرائيلية كلها.
وازداد الامر تعقيدا نتيجة تعثرها في تحقيق اهدافها –حتى الآن على الأقل- ، فلا هي دمرت المقاومة ولا نزعت سلاحها ولا استعادت أية رهينة ، بل اصبحت الضفة الغربية شوكة اضافية في الحلق الصهيوني،ناهيك عن النهش الفاعل والمتواصل والمتصاعد من اطراف محور المقاومة .
لكن الضرورة تقتضي الحذر، فالمعركة لم تنته بعد ،بل لعلها دخلت في مستوى اكثر تعقيدا، وتكشف التوجهات الاسرائيلية ان نيتنياهو يُصر على لاءات ثلاث: لا مقاومة في غزة، لا دولة فلسطينية، لا تبادل رهائن على قاعدة الكل مقابل الكل، وعلى الارجح فان الاستراتيجية الاسرائيلية القادمة طبقا لما تتداوله النخبة الاسرائيلية هو تبني استراتيجية تقوم على الاسس التالية:
1- دعوة الولايات المتحدة للضغط على الدول العربية وبخاصة قطر لوقف التمويل "المدني" للمقاومة وبالذات حماس ومنع قياداتها من المغادرة ،الى جانب الضغط عليها لتعديل بعض جوانب السياسة الاعلامية لقناة الجزيرة.
2- زيادة الدور المصري في الوساطة مع المقاومة بخاصة في موضوع الرهائن من ناحية وزيادة التنسيق لضبط معبر رفح وممر فيلادلفيا من ناحية ثانية.
3- تكثيف مضمون الاعلام الاسرائيلي باتجاه الجمهور الاسرائيلي والتركيز على "الحاجة للوقت والصبر" لإنجاز الاهداف.
4- العمل على كبح كل محاولات تحقيق وحدة وطنية فلسطينية يكون للمقاومة اي دور فيها.
5- منع عودة كبيرة للنازحين من شمال قطاع غزة الا في حدود "حيز محدد" وخاضع للرقابة لمنع تسلل عناصر المقاومة للعودة واعادة بناء خلاياها في الشمال.
6- طرح إنشاء نظام وصاية دولي بقيادة الولايات المتحدة، وبمشاركة الدول الإقليمية الرئيسية وتحديدا مصر والسعودية والإمارات ، ويعهد لهذه الوصاية انشاء حكومة تكنوقراط مع توسيع دورها تدريجيا للوصول الى السيطرة التامة على غزة خلال خمس سنوات من ناحية ويكون ذلك مقدمة لإدارة محلية فلسطينية تضم الضفة الغربية وغزة من ناحية ثانية.
ذلك يعني أن هناك واقع فيه سيولة كبيرة لم تستطع اسرائيل حتى الآن ضبطها لصالحها، ولكن هناك تخطيط اسرائيلي ما زال التشبث يه هو السمة الاساسية لحكومة اليمين الصهيوني ، ويبدو ان الضغط على المدنيين الفلسطينيين بالمذابح والتدمير والتجويع والاعتقال والتهجير هي الأداة الأكثر نفعا من زاوية المنظور الاسرائيلي ، وهي كعب أخيل –كما سبق ووصفناها في مقال سابق- من منظور المقاومة، فالعبء المدني يُرهق وبشكل غير طبيعي كاهل المقاومة التي تواجه محور شر واسع ومتخم بالقدرات.
وفي تقديري، ان مفتاح الترجيح بالفوز لأي من طرفي الصراع الحالي هو الموقف المصري من معبر رفح( الذي تم توقيع اتفاقياته مع اسرائيل عام ٢٠٠٥ وينتهي الاتفاق حسب نصه عام ٢٠٠٦) ، فاستمرار سياسة الفتح الشكلي للمعبر استجابة للضغط الامريكي والاسرائيلي بل وبعض دول "الوصاية المقترحة من طرف اسرائيل" يضمن للنظام أمنه، لكنه ينطوي على ضرر استراتيجي للدولة المصرية والمجتمع المصري على المدى المتوسط والبعيد، فمصر حاليا مطوقة بالنيران في السودان وليبيا والبحر الاحمر وغزة، ناهيك عن تراجع سبق وقسناه ل 352 مؤشرا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وتبين التراجع فيها بنسبة 64.6% ، مضافا لذلك كله تداعيات سد النهضة التي ستظهر لاحقا ، وان الربط في ذهن صانع القرار المصري بين المقاومة في غزة وبين "هواجسه وكراهيته للتيارات الدينية(رغم انه الاكثر استخداما للحلفان بالله في كل كبيرة وصغيرة في خطاباته) يكشف عن اولوية امن النظام المستند للقوى ذاتها الاقرب للسياسة الاسرائيلية ،وهو ما يعني ان التضحية بأولوية المجتمع والدولة لصالح امن النظام قد ينطوي على خطر استراتيجي عميق ستواجهه مصر مهما تم من توظيف لشعراء البلاط "الجمهوري" لنشر الغواية السياسية. لذا أقول، إذا هُزمت غزة، فإن مصر هي المسئولة الأولى عن حرمان المقاومة من علاج "كعب أخيلها "وعن تعريض الامن القومي المصري لتداعيات ذلك كله.