أشارككم أحبّتي هذه الخواطر المبعثرة بصفتي إسلام الإنسانة ..صاحبة بروفيل شخصي .. فلا تتعسّفوا عليّ و تطالبوني بإلتزام شروط الحزم و القوّة .. و الإلتصاق بالفصول و القانون و الإجراءات .. فهو ليس نصّ محامية .. و لا يخفاكم هذه المرّة.. الضّرب في العظم .. و لي فيهم أصدقاء و أحبّة و الألم مضاعف ..
إثر كلّ إستنطاق كان قرار الإيداع عندما ينطلق من حنجرة القاضي المُرتبك ..يستقرّ كالرّصاصة في جسدي .. تلقّيت الرّصاصة الأوّلى مع خيّام (يتبع).. ثمّ الرّصاصة الثّانية مع سي عبد الحميد (يتبع)..
ثم رصاصة الإيداع الثالثة مع عصام .. و رغم حرارة المصافحة بكلتا اليدين و معناقته و تلك الإبتسامة الواثقة الخاصّة بعصام .. فقد اشتدّ بي الألم من تتالي تلك الطّلقات .. و بمجرّد وضع القيود في معصميه و اقتياده خارج مكتب التّحقيق.. كان من المستحيل إحتواء الدّموع خاصة أنه كان له من بين أعضاء هيئة الدّفاع رفاق عمر .. رجال لم يتمالكوا أنفسهم أيضا عن البكاء.. و لا أظن أنّه قد خطر ببال أحد منهم حتى في أتعس كوابيسه .. أنه قد يعيش موقفا بتلك العبثيّة ..حيث يُسجن "الشابّي جونيور" كما يحلو لي أن أسميه بإعتبار سي نجيب هو "الشابّي سينيور" .. بتهمة الإرهاب و التآمر على تونس!!.
ثم الرّصاصة الرابعة مع جوهر .. كنت واقفة مقابلته لأني لم أجد كرسيّا شاغرا ..و ظهري للحيط بش نجم نصلب طولي بعد كلّ ما رأيت و سمعت لأكثر من 20 ساعة.. [علما أنه من أكثر القطاعات مساواة بين الجنسين في الهمّ و التّعب هو المحاماة حيث من النّادر جدّا أن تجد محامي "ذكر" يعطيك كرسيه لأنك "أنثى" فالمحامي يُعاني في مهنته من ظروف و ظغوط تجعله مع الزّمن يفقد ذلك الحسّ متاع "الجانتل مان" أو الإيثار.. و هو معذور..].. لا علينا في التّفاصيل الجانبيّة ..
عاد رأينا عند استنطاق جوهر أن تجلس أخته دليلة إلى جانبه لعلّه يستمدّ منها أمانا.. تظاهرت دليلة برباطة الجأش ..فإصطنعت إبتسامة وضعت على وجهها عبثا قناعا يُوحي بالجَلد و الإستهزاء باللّحظة .. لكن كلام جوهر أمام القاضي أسقط قناعها.. حين استحضر التّاريخ النّضالي لوالديه و معاناته هو و أخته بسبب حرمانهما من والدهما ..إثر سجنه المُطوَّل في إطار ما عُرف بقضيّة بيرسبيكتيف حيث كان طفلا لم يتجاوز عمره الأربع سنوات .. كانت الدّموع تنهمر من عينيها و هي تحاول بلا جدوى مسحها و إخفاءها، بل و إزدراءها .. فقسمات وجهها و تلك الرّعشة اللاإراديّة في وجنتيها فضحت الصّراع العميق الدائر.. بين باطنها و ظاهرها .. بين الأخت المُلتاعة و المحامية الشّرسة.. فكان إطلاق رصاصة الإيداع.. رحمة و لحظة استجمعت فيها دليلة قوّتها من جديد و عانقت أخاها و قبّلته ..
أمّا بالنسبة لجوهر عند سماعه لصوت رصاصة الإيداع ..و لشدّة إحتقاره لتُهم المنقلب و زبانيته.. حتى شيء ما حيّره أو قلقه كان الدخّان!!.. عون الأمن يقيّدلو في يديه و هو: "يا دليلة اعطيني نهزّ معايا دخّان".. و هي ما كانتش من العاكسين.. الدّموع تجري و "أمان أعطيوني دخان"!!.. و بدأت تاخذ في الدّخان من الزّملاء على كل لون و تعبّي لخوها.. و فيسع رجعلها شاهد العقل أنه ما ينجمش يدخله معاه .. فطمأنته: " تهنّى .. توة نجي ديما نطل عليك.. تهنّى.. نهار الاثنين نقصّلك بونوات الدّخان .. في الويكاند تسلّف من المساجين الأخرين و بعد رجعلهم!!" .. لقد كانت لحظة حقيقة بشريّة ..تنازعت و تصادمت فيها الإحتياجات الفكريّة السّامية.. فجوهر أستاذ القانون من صُلب عز الدين الحزڤي ما ينجمش يعيش بلا ديمقراطية و حريّة و يتلهى في روحو و أولاد و خبزته .. بالإحتياجات الجسديّة و الكيف فالسجائر كانت على رذالتها سيّدة الموقف.. و سخرت من كلّ تلك الحقوق السياسيّة و المدنيّة..
بعد كل ذلك بوقت قصير .. قصير جدا.. لم نتمكن خلاله من إسترجاع أنفاسنا.. حان موعد استنطاق شيماء.. جلست إلى جانبها زعمة زعمة بش نقوّيها.. لكنها للشّهادة كانت أقوى منّي بكثير .. بمجرّد إطلاق رصاصة الإيداع الخامسة ..
صرخت شيماء بصوت خرج من جواجيها يقطّع القلب .. مُطالبة القاضي بتطبيق القانون و حمايتها من إرهاب و تآمر أجهزة الدّولة ضدّها.. و ذكّرته بأنّ الوطن و الدّستور يُحمّله مسؤولية حفظ الحقوق و الحريات لا تطبيق التعليمات: "سيدي القاضي.. شكون يحميني أنا؟.. شكون يحميني من الظّلم و خرق القانون؟.. وقتاش يوفى الإستبداد!!.. بابا تظلم و دخل الحبس و أنا و اخواتي تعذّبنا و أمّي خدمت في الدّيار و ماتت بحسرتها .. أنا عندي كُتبي و طَلبتي و ولدي شكون بيهم!!.. أنا موش إرهابيّة!!.. أنا نحب تونس.. و بش نقعد رغم كل شيئ نحبّ تونس"..
هذه الرّصاصة استقرّت مباشرة في قلبي .. و أفقدتني توازني.. ففحين زُفّت شيماء المكبّلة بالحديد في إتّجاه غرفة الإيقاف تحت التّصفيق و أنغام النّشيد الوطنيّ .. دخلتُ في حالة "مخجلة" من الغضب و الصّراخ: "سنحاسبكم.. سنحاسبكم.. و يسقط يسقط الإنقلاب" .. ورغم محاولة بعض الزّملاء الأحبّة لإحتوائي و إخراجي: " اسكت اسلام .. ريض اسلام.. ما تقولينه يتسجّل عليك اسلام".. حتى كي خرجت للكولوار شعار يسقط الإنقلاب ما حبّش يتنحى من فمّي .. فقط ترديده كان كفيلا بتسكين الألم و تخفيف الشَّويَة و لو مؤقتا ..
يا أحرار .. أشهد و الشّهادة من الدّين .. أنّ الدّولة تتآمر على مُواطنيها و ترميهم بالتآمر و الإرهاب!!.. أوليس هذا الإرهاب بعينه!!.. لقد زيّنوا الملف بالصهيوني برنار اونري ليفي و غيره عن قصد .. تيي و اللّه لو ألحقتم جماعة تنظيم القاعدة و قيمتوا بن لادن و الظواهري من قبورهم و أحلتوهم في نفس الملفّ مستحيل تقنعوا النّاس طبعا بإستثناء الجهلة و الدغف إلّي يشطحوا على طار بو فلس.. أنّ عصام و جوهر و شيماء و البقيّة إرهابيين..