عادت بي ساعة الزمن عشر، عشرين، ثلاثين، أربعين سنة إلى الوراء. نفس الديكور، نفس الأجواء المتوترة، نفس الهوة السحيقة: القاضي في جانب والمحامون في جانب والمواطنون في جانب ثالث، محاصرين امام اسوار المحكمة العسكرية.
بعد لأي اتفق القاضي مع رئيس فرع تونس للمحامين بإجراء التحقيق في قاعة تتسع للسان الدفاع الذي فاق عدده السبعين محاميا، من بينهم محام أجنبي انتدبته الهيئات الدولية لمراقبة سير الإجراءات. أعطيت الكلمة للمتهم ففند التهم الموجهة اليه الواحدة تل والاخرى: تحول المتهم الى مستشفى بوقطفة ببنزرت بصفته محاميا لالتقاء حريفه نور الدين البحيري كما يخول له ذلك القانون المنظم لمهنة المحاماة.
اعترف المتهم بالتصريحات المنسوبة اليه التي دعا فيها اعوان الامن الى التقيد بالقانون منبها إياهم الى ان من أصدر لهم التعليمات لن يشفع لهم حين المساءلة، وأورد النصوص القانونية فصلا، فصلا، التي توجب ان تكون التعليمات الادارية موافقة للقانون والتي الزمت المأمور العمومي باحترام القانون وانه اذا اشتبه في موافقة التعليمات للقانون يتولى مراجعة رئيسه ويطلب منه جوابا كتابيا، اما اذا كانت الأوامر مخالفة مخالفة بينة لأحكام القانون فللمأمور ان يرفض تنفيذها. خطاب السيد عبد الرزاق الكيلاني كان إذن في إطار قيامه بواجبه المهني وموافقا تماما لمنطوق قوانين البلاد.
تمكن الأستاذ الكيلاني من الدفاع عن نفسه بكل حرية وكان دفاعه مفحما، تساءلت إثره عما يمكن ان يقدمه الزملاء من إضافة. شارفت الساعة على الواحدة ظهرا وبعدما تبين ان الاتهام لا يستند الى واقع او قانون، انسحبت من قاعة المحكمة مطمئن البال.
استمرت المرافعات الى ساعة متقدمة من الليل، وفي آخرها خابرني أحد الزملاء ليعلمني بأن قاضي التحقيق قرر إيقاف العميد عبد الرزاق الكيلاني ايقافا تحفظيا في انتظار ختم التحقيق واحالته على المحاكمة.
بأي حق؟
وبقطع النظر عن جدية التهمة من عدمها، فإن الإيقاف التحفظي اجراء استثنائي يتخذه قاضي التحقيق في ثلاث صور محددة على وجه العد والحصر: الخوف على سير الابحاث، او الخوف من العود او الخشية من التفصي من العقاب.
الوقائع تعود الى شهر ديسمبر وهي موثقة بشريط فيديو والمتهم وزير سابق وعميد للمحامين وشخصية مدنية مرموقة استجابت بكل تلقائية الى الاستدعاء القضائي، فعن أي خوف على الأبحاث نتحدث وعن أي عود نتكلم؟ ولو كان التفصي من العقاب يقوم على مجرد الظن لانهارت مبادئ القانون وانتفت قرينتا الاستقامة والبراءة وتحول الإيقاف الى أصل لا استثناء.
معذرة، المسألة ليست قانونية اطلاقا، فالقانون منها براء. هي عنوان لمرحلة بأسرها: دوس للدستور، وخروج عن القانون، وإلغاء الفصل بين السلطات، وتهديد الحريات. هي رسالة الى كل من تحدثه نفسه بمعارضة انقلاب قيس سعيد، فمكانه السجن أو كما قالها الرئيس ذات مرة ... "مكانكم تحت التراب". انها شتيمة موجهة الى التونسيين جميعا: لا كبير فيكم، كلكم صغار، كلكم رهين مشيئتي وتحت اقدامي.
لا يا سيدي نحن للحرية ونحن لها فداء.
لا يا سيدي سوف ستعود تونس تاجا للديمقراطية نباهي به ويباهي بنا.
ومرة أخرى لبني بلدي أقول: كفانا فرقة، كفانا كرها ونفورا من بعضنا البعض، نحن على ظهر سفينة واحدة اما ان ننجو جميعا او نهلك جميعا، فلنتحد ولنبني قوة التوازن على طريق الخلاص.
ولزوجة عبد الرزاق الكريمة ولأبنائه الابرار أقول: صبرا ان بعد العسر يسرا.