ورقات من ماض لم ينته بعد.. يوميّات تونسيّة من سنوات الجمر.. الحلقة (5) البحث عن الفُتاتْ

Photo

البحث عن الفُتات

"كان السيخ راشد الغنُّوشي, خلال البرنامج التلفزيوني, يصرُّ, وبإلحاح لم تعد ترجى منه فائدة, على عدم اعتماد حركته للعنف.. بل وعلى تهافت العنف كمنهج لمقاومة أنظمة الحكم المستبدَة, وبأن العنف فيه إضرار كبير بالإسلام وبالمسلمين, والدليل على صدق المقولة ما حدث للإسلام وللمسلمين بعد الحادي عشر من سبتمبر - وكأن الأمر مفاجأة غير منتظرة! وألتقف أحد العلمانيان الكرة ليستغلها دعما لموقفه, المتهافت أصلا, فضرب من راشد الغنُّوشي مثلا لإمكانية تواجد إسلاميين غير ذوي عنف.. وهكذا نجد أنفسنا من جديد أمام مقولة الإسلامي المتقَبَل, هو الإسلامي المقبور- بالموت أو بالسجن أو بالصمت, وهو أضعف الإيمان…

إنَها مأساة الحركات الإصلاحية في عالمنا العربي الإسلامي, أو بالأحرى من توهم نفسها والناس بأنها حركات إصلاحية.. إنّها – والتاريخ والواقع يشهدان - لم تصلح شيئا.. واشتعلت رؤوس قياداتها شيبا, ولم تصلح شيئا… بل إنَها أفسدت ما كان مأمولا إصلاحه, وأخّرت إلى ما لانهاية تباشير الخلاص..

بعضهم, وحتى " يجنّب بلادنا العزيزة الهزَات"1 , ذهب إلى أبعد من ذلك.. فتقرب وتزلّف وركع وسجد وأنبطح عند أقدام الأمير, لتنفرج أسارير هذا الأخير عن ابتسامة ساخرة شامتة, تختزل قرونا من الاحتقار لما آل إليه هؤلاء المعارضون باسم الماركسية اللّينينيَّة, وباسم التروتسكية, وباسم الماوية, وباسم الحداثة الليبرالية, وباسم النهضة العربية, من هوان. فصاروا يبحثون لهم تحت الموائد, على بعض الفُتات. وباتوا, في سبيل ذلك, على استعداد تام إلى مباركة كل السياسات, وكل المعتقلات, وحتى خلع السروال, إن كان في ذلك مرضاة للأمير.. ولتذهب البروليتاريا والجماهير الشعبية إلى الجحيم.. لقد يئسوا من الشعب الذي لم يعطهم حق قدرهم ولم يفقه ما كانوا يقولون. فالشعب غبي… و "وعيه بقري"2 ..

ما العمل؟

"تحدث الشيخ راشد عن الجهاد وأهميَته, وأنَ الجهاد لا يعني القتال, فضلا عن أنه يعني القتل الإجرامي للأبرياء العزل, كما حدث في 11 سبتمبر؛ وأضاف بأن الجهاد كأداة معارضة أمر مشروع ومطلوب – أفضل الجهاد عند الله, كلمة حق عند سلطان جائر.. كل هذا معلوم من الدين بالضرورة, ولا أحد يعتقد بأن الجهاد يعني القتال, بما في ذلك الحركات التي تسمت باسمه. وأنا لا أجد هذا الخلط إلا في خطاب حفنة الإعلاميين و "الفلاسفة الجدد" المعتمدين لدى الإعلام الغربي. وخلطهم هذا, نابع أصلا من حقدهم على الإسلام أو جهلهم به, أو كليهما معا..

لقد ضيَق, فيما أرى, الشيخ راشد الغنوشي واسعا حينما حصر الجهاد القتالي في حالة واحدة, وهي مقاومة عدو خارجي محتل؛ وضرب مثلا, العراق وفلسطين وربما الشيشان, لا أذكر.. قد تتهمني بالطوباوية وهذا شأنك.. ولكن لنتساءل معا وبكل نزاهة : ما العمل حينما تنعدم إمكانية قول كلمة حق عند سلطان جائر؟ بل حينما تنعدم حتى إمكانية التفكير في أن السلطان جائر أصلا؟ ما العمل حين يزيح ظابط مظلم من أمثال بينوشيه رئيسا شرعيا منتخبا ويزج بعشرات الآلاف من أبناء الشعب في المعتقلات للتعذيب والتقتيل؟؟؟ ما العمل حين يتسلط اثنان وعشرون حاكما على رقاب شعوبهم, بدون هوادة, ولعشرات السنين : تونس, رئيسين لخمسين سنة على الأقل ؛ ليبيا, قائد واحد منذ أربعين عام ؛ مصر ثلاثة رؤساء لخمسين سنة على الأقل ؛ الأردن ملكان لنصف قرن ؛ وكذلك المغرب وسوريا والعراق واليمن والسعودية والكويت و عمان… الخ؟ ما العمل حين يكفر هؤلاء بمبدأ تداول السلطة, فيرثها الأبناء عن الآباء, ممالك كانت أم جمهوريات؟ ما العمل حين تكون نسبة المؤيدين لهؤلاء الحكام ثابتة لا تتغير عبر السنين والأجيال 99 وكسور %؟ (…) ما العمل حين يمنع الشباب من التظاهر احتجاجا على حرب ستشن على بلد عربي… ويتظاهر مئات الألوف وبكل حرية في باريس ولندن و… واشنطن؟ ما العمل حين يصبح مجرد تقديم العون إلى زوجة وأطفال جار أو قريب سجين, بمثابة جريمة "انتماء إلى جمعية غير معترف بها, وتمويل حركة سرية وإرهابية", تدخل بموجبه, أنت الآخر السجن, بعد مرور لازم عبر مؤسسة الخوف – لماذا تصرفت برجولة؟ سنفقدك إياها الآن, تأكدْ! ما العمل حين يصبح مجرد حديث عن الأدب, أو التاريخ أو الدين أو السياسة… أو حتى الرياضة! مغامرة خطيرة تجبرك على الحيطة حتى من الجدران؟ ما العمل حين " يتأخر مجرد مكتوب من أمي في أروقة الدولة شهرين قمريان "3 ؟

ما العمل آنذاك؟

هل ننتظر قدوم عدو خارجي لغزونا حتى نفكر في مشروعية الجهاد؟

لا والله.. سيغدو قدوم العدو الخارجي الغازي حينذاك, أمرا مأمولا.. نحلم بحدوثه.. سيصبح العدو الخارجي الغازي, منقذا, محررا, بيده الخلاص".

(يتبع)


1- عبارة وردت في بيان أمضاه باسم حركة الاتجاه الاسلامي، الشيخ عبد الفتّاح مورو أثناء "ثورة الخبز" (جانفي 1984).

2- عبارة وردتْ على لسان أحد المتدخّلين من الوطد أثناء اجتماع عام عقد في معهد الصحافة وضم طلبة هذا المعهد بالاضافة إلى كلية الشريعة وال ENSET في 2 جانفي 1984.. وكان الموضوع: النزول أم لا للشوارع مساندة لانتفاضة الشعب!

3- مظفر النواب، وتريات ليلية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات