قبل ان يصدر قيس سعيد مرسومه الرئاسي عدد 4 لسنة 2022 المؤرّخ في 19 جانفي 2022 في تنقيح القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤرخ في 28 أفريل 2016 المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء، كان عدد من «حلفاء» الرئيس يحرض على حل ذلك المجلس لأسباب سياسية ويركب، عن وعي او بدونه، الحملات المنظمة ضد السلطة القضائية (بمحاكمها وهياكلها واشخاصها) التي حظيت ولا زالت بتغطية صريحة من الرئيس شخصيا.
ورغم ان تلك الممارسات قد انطلقت مبكرا وركزت في جانب كبير منها على مؤسسة المجلس الاعلى للقضاء باعتباره ضامنا « لحسن سير القضاء واحترام استقلاله » فضلا عن اعضاء المجلس والمشرفين عليه بمختلف هياكله، الا ان اختراق سلطات المجلس وصلاحياته بصفة فعلية قد وجد في المنح والامتيازات المخولة لأعضائه مدخلا ملائما لتنفيذ خطة « الاستيلاء « والتغلغل الى مفاصل المجلس بكاملها.!
وان كان من الوارد لدى قيس سعيد تأجيل الاعلان عن حل المجلس الى ما بعد الاستفتاء على الاصلاحات الدستورية و صياغة منظومة قضائية جديدة(وموالية!)، فان ذلك لم يمنع قيس سعيد من التدخل المباشر لتنقيح القانون الاساسي للمجلس والغاء بعض احكامه مما يفتح الباب واسعا امامه للتصرف فيها طبق اهوائه وتوجهاته وذلك استنادا الى التدابير الاستثنائية والى ما احاله لنفسه من سلطات تشريعية بمقتضى الامر عدد 117لسنة 2021 المؤرخ في 22سبتمبر 2021.
ويبدو جليا ان ادراج تنظيم العدالة والقضاء ضمن مشمولات المراسيم طبق الامر عدد117 لسنة 2021 قد مكن قيس سعيد من الحلول محل مجلس نواب الشعب الذي يختص اصلا في تلك المسائل ويصدر في تنظيمها قوانين اساسية يتم ابداء الراي فيها وجوبا من قبل المجلس الاعلى للقضاء وتخضع بعد اقرارها لرقابة الهيئة الوقتية لمراقبة مشاريع القوانين.
وعلى خلاف ذلك، فان التدابير الاستثنائية قد سمحت لقيس سعيد بتغيير قانون اساسي منظم لممارسة سلطة مستقلة دون ان تبدي رايها و بعد مداولة شكلية بمجلس الوزراء وبمعزل عن اية رقابة خصوصا بعد التنصيص بالأمر عدد117لسنة 2021على ان المراسيم لا تقبل الطعن بالإلغاء زيادة على حل الهيئة الوقتية لمراقبة مشاريع القوانين.
ولا شك ان صدور المرسوم الرئاسي الجديد-الذي وضع حدا للمنح والامتيازات المخولة لأعضاء المجلس الاعلى للقضاء -كان يهدف الى ابراز ان القضاء حسب اعتقاد قيس سعيد لم يعد يمثل اكثر من وظيفة داخل الدولة، الشيء الذي مكنه(وسيمكنه في المستقبل!) من صلاحية تنظيمه و الاشراف على حظوظه.
ويتضح ان استتباعات ذلك المرسوم-الذي ادى صدوره الى رد قوي من المجلس الاعلى للقضاء في بيانه الاخير بتاريخ 21 جانفي الجاري – تتجاوز في مداها حدود ما اقتضاه الفصل 2 من انه « يوضع حد للمنح والامتيازات المخولة لأعضاء المجلس الاعلى للقضاء بمقتضى القرار الترتيبي الصادر عنه عدد 1 لسنة 2018المؤرخ في 30مارس2018. »
فوراء هذا «الحرمان غير المشروع» الذي يخص اعضاء المجلس، تكمن على الاقل ثلاث نتائج اساسية من شانها الاضرار بوضع المجلس الاعلى للقضاء كاحد الضمانات الجوهرية للقضاء كسلطة مستقلة:
اولها،التدخل في صلاحيات المجلس الاعلى للقضاء والتعدي على استقلاليته الداخلية وذلك في مخالفة صريحة لأحكام الفصل 113 من الدستور الذي ينص على تمتع المجلس بالاستقلال الاداري و المالي والتسيير الذاتي.
ويؤدي الغاء احكام الفصل4 والمطة 2من الفقرة الاولى من الفصل 42 من القانون الاساسي المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء الذي اقره المرسوم الجديد الى اسقاط احدى صلاحيات الجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة وهي ضبط المنح المسندة لأعضاء المجلس في اطار الميزانية المصادق عليها من قبل مجلس نواب الشعب.
مع ملاحظة ان الجلسة العامة عند ممارستها لهذه الصلاحية تصدر قرارا في ذلك يتم نشره بالرائد الرسمي على غرار القرار الترتيبي عدد 1لسنة 2018المذكور اعلاه.
ومن المفارقات ان يتم الاعتماد في هذا الشأن على صلاحيات موروثة عن السلطة التشريعية المعطلة بقصد الغاء صلاحية مشروعة تمت ممارستها طبق احكام القانون.!
ولعل ما يلفت الانتباه في نص المرسوم الجديد فضلا عن ذلك خلوه من الاحالة على القانون الاساسي المتعلق بالمجلس الاعلى للقضاء وهو ما اعتبره هذا الاخير في بيانه المذكور « تهديدا للمنظومة القانونية للسلطة القضائية ».
اما ثاني النتائج فتتعلق بتهديد السلطة الترتيبية للمجلس المنصوص عليها بالفصل الاول من قانونه الاساسي.
ويؤكد المجلس في بيانه الاخير ردا على الغاء قراره الترتيبي عدد1لسنة2018 تمسكه « بصلاحياته الترتيبية في مجال اختصاصه المسندة له بصريح احكام الفصل الاول من قانونه الاساسي ويرفض التمادي في الاعتداء عليها في محاولة واضحة لإفراغ هذا الفصل من محتواه سيما وانه سبق للسلطة التنفيذية تعطيل انفاذ كافة القرارات الترتيبية الصادرة عن المجلس سنة 2019 والمتعلقة بالمسارات المهنية للقضاة. «
اما عن ثالث النتائج فتخص الانتقاص من الحقوق المادية للقضاة وبقية اعضاء المجلس وهو ما يمثل اعتداء واضحا على الاستقلالية المالية للسلطة القضائية وهياكلها.
ويوضح المجلس الاعلى القضاء في بيانه الاخير ان «صلاحية ضبطه للمنح و الامتيازات المسندة لأعضائه قد استندت الى قانونه الاساسي وتمت طبقا لموجبات الشرعية والشفافية والتوازن المالي لميزانية الدولة « .
وعلى خلاف ذلك يشير المجلس الاعلى للقضاء في نفس السياق الى ما شاب المرسوم الرئاسي من خروقات لعل اهمها « تعديل ميزانية المجلس خارج الاجراءات المستوجبة بالقانون الاساسي للميزانية الذي يقتضي ان تعديل الميزانية يتم حصرا بواسطة قوانين مالية تعديلية «وهو ما غاب عن الاعتبار عند اتخاذ قرار الحرمان من المنح و الامتيازات.!