الخطأ في التشخيص ينتج عنه خطأ في العلاج..

ما من شك في سلبية الدور الذي لعبته النهضة منذ انطلاق التجربة الديمقراطية التونسية بعد ثورة 2011. وقد جاء تحميل الشارع التونسي لحركة النهضة مسؤولية الوضعية التي تعيشها البلاد اليوم واضحاً جلياً، في مشاهد ذكّرتنا باستهداف مقرّات التّجمّع منذ عشرة سنين.

ولكن تبقى حركة النهضة، بفسادها (السياسي على الاقل) وغطرستها وكل أساليبها المكروهة، مجرد تمظهر لمشاكل أعمق تعاني منها ديمقراطيتنا الناشئة.

أجد نفسي مضطراً أن أذكر أن افلاس جميع الطبقة السياسية -بلا استثناء- هو الذي تسبب في خلق وضعية الانسداد السياسي الذي قادنا إلى 25 جويلية 2021.

هل يجب أن أذكر أن الانتخابات كثيراً ما كانت عملية غير نزيهة اخترقها المال السياسي والتأثير الاعلامي وحملات التشهير والاستقطاب والحسابات واللوبيات؟

لقد تولّى حكمنا في “سنوات الثورة” اشخاص مثل الهاشمي الحامدي وسليم الرياحي ونبيل القروي والبحري الجلاصي وشفيق الجراية وغيرهم من الظواهر التي تعكس فساد المسار الديمقراطي من أساسه.

هل ننسى كمّ الفضائح الذي خرج إلى العلن مع انفجار حزب نداء تونس، والذي كانت يفترض أن يبعث بنصف الساحة السياسية الى السجن بتهم تتراوح من تهريب العملة الى الخيانة والتجسس لصالح جهات اجنبية. هل ننسى أن أياً من هؤلاء لم يقع حتى استدعاؤه للتحقيق؟

هل ننسى أننا بلغنا مستوى من الشعبوية صار معه هتك الأعراض واثارة النعرات الفئوية والجهوية، والتراشق بالاتهامات والمداخلات الاستعراضية وترذيل الدولة ومؤسساتها عناوين حضور وسبيلاً للنجاح في الانتخابات؟

إن قضاءنا مريض، وإدارتنا مريضة، والعملية السياسية مريضة حدّ السّقم، تماماً كما هو المجتمع الذي خرجت من رحمه هاته العاهات.

من يريد التركيز على حركة النهضة، أو البرلمان، كأمّ الشرور في البلاد سيخطئ العنوان حتماً. ذهابهما لن يعني انصلاح حال البلاد بقدرة قادر، تماماً كما لم يكن رحيل بن علي والطرابلسية كافياً للقضاء على الفساد أو البيروقراطية أو الظلم في مراكز البوليس وهتك كرامة المواطنين.

بدل السعي وراء اجتثاث النهضة، حريّ بنا أن نجتثّ الظواهر والأطر التي سمحت بتفشي سلوكيات الفساد السياسي، عند النهضة وعند غيرها، ومعالجة التوازنات التي أبقتها عصيّة على المحاسبة. القضاء على الأعراض سيكون حبّة مسكّنة ستفشل في العلاج لتعود الآلام من جديد، وإن كان في مواضع أخرى.

بدل أن ننقم على الساحة السياسية ونعتبرها منبع المآسي، علينا أن نتدارس كيف نصلحها ونجعلها تستقطب خيرة من في شباب تونس لا سقط متاعهم (حاشى قلّة مناضلة مرابطة). علينا أن نعالج السلّم حتى يتقدّم علينا ليحكمنا من هم الأفضل بيننا، لا أمثال طوبال والخياري والبحيري (للذكر لا للحصر فليس أي فصيل سياسي -بما فيه الحزب الذي انتمي اليه- منزّهاً عن الرداءة، ولو اختلفت الدرجات والأشكال).

ستهدأ الهبة الشعبية ومشاهد الفرح العارم بعد ايام قليلة، وستعود الناس الى مشاغلها وهمومها اليومية، وسنجد انفسنا من جديد امام تحديات كبرى لا يمكن ان نتجاوزها بدون، وحدة واجماع وطنيين.

الأكيد هو ان على الجميع تجنّب المغالبة والمكابرة، او الاسراع بإعلان الانتصار، فالخطر يهددنا جميعاً بلا استثناء، والانتصارات الصغيرة لن تذهب بأصحابها بعيداً.

الوضع جلل بكل المقاييس وعلينا جميعاً التحلي بالرصانة والمسؤولية وتغليب العقل والوحدة والمصلحة الوطنية. لكنني وبقدر ما احمل من مخاوف وتوجّسات، استطيع ان ارى في ما نعيشه اليوم فرصةً وتحدي. فرصة للإصلاح والمحاسبة في مواضعها. الحلم والتفاؤل وحدهما غير كافيين، لكنهما ضروريان لفتح آفاق جديدة واستنهاض العزائم والمحاولة من جديد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات