الحوار الوطني التونسي بين المساومة السياسية والتّسوية التاريخية…

-الى قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل اسهاما في رسم خارطة الطريق.

-والى نخب الوطن السياسية اقتصادا في 'الثورية المضادة' و 'الثورية المحافظة' و 'الثورية الاجتماعية القديمة' و 'الثورية الشعبوية الجديدة' انقاذا للوطن الغريق أحبها تلك البلاد حتى في " خرابها الأخير ! "

1-

عندما يتصارع خصمان الى أقصى حدود الصراع تكون النتيجة واحدة من اثنتين عادة : اما أن ينتصر خصم على الآخر ، أو ينهزم الخصمان معا ولكن ، اما ليبرز طرف ثالث تماما يتحكم في مجريات الأمور سواء كان طرفا داخليا أو خارجيا، ايجابيا أو سلبيّا، أو ليسود الخراب الانسحاقي .

2-

يطرح الحوار الوطني عادة في الحالات التالية : من الضعفاء عندما يعرفون أن الخصم القوي سيحسم الصراع لصالحه نهائيا عبر 'الضربة القاضية ' ، من الأقوياء عندما يريدون أن يحسموا الصراع دون المرور الى 'الضربة القاضية' مكتفين 'بالانتصار بالنقاط ' حفاظا على ماء الوجه أمام الغير واتقاءا لشرّ المستقبل، من "الحكماء" عندما يرون أن الصراع سيدمر الطرفين و يعطي النصر لطرف ثالث أسوأ منهما أو يدمّر الحلبة نفسها فوق رؤوس الجميع ليسود الخراب، و من 'اللؤماء' عندما يرون أن طرفا ثالثا أفضل من الطرفين المتصارعين هو من سيسود و ذلك بهدف الحفاظ على الموجود ضدّ ' الخط الثالث' الايجابي .

3-

في تونس التي تعرف وضع أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة منذ سنوات عشر ،عمقتها أزمة كورونا وستعمقها ، نحن اليوم في وضع مركّب 'بين - بين' تقريبا ؛ نحن في وضعية أزمة حقيقية ،ولكن مركّبة ، لا تشبه فقط تلك التي لخصها أنطونيو غرامشي بقوله الشهير حول 'أزمة القديم الذي لا يموت و الجديد الذي لا يولد و الأشباح التي تظهر في الأثناء' ، بل يمكن التعبير عنها بكونها أزمة ضعف القديم بكامله (الرجعي والاصلاحي و الثوري معا ، مع هيمنة رسمية للجناح المحافظ مؤقتا ) دون وجود جديد جذري ثوري ، وحتى اصلاحي حقيقي، مع خطر انبعاث قديم سياسي رجعي متجدّد نسبيا يهدّد بتحويل الصراع بين'الثورة المضادة' السياسية (القادم من جديد ) و'الثورة المحافظة' (الأقوى من ضمن القديم /المتجدّد المتأزّم ) الى محرقة تأتي على الأخضر و اليابس ، بحيث نكون أقرب الى الانسحاق والذي قد يعطي لقوى داخلية مسنودة دوليا فرصة الظهور كمنقذ من الأزمة ولكن من خلال العودة الى الصراع ما قبل الديمقراطي و غير الديمقراطي .

4-

بعبارة أخرى، نحن في وضعية أخطر أزمة مركّبة على كل المستويات الداخلية والخارجية تعرفها البلاد منذ انتصار الثورة السياسية بحيث وصلنا الى الاستقطاب الثنائي بين 'الثورة المضادة 'السياسية القديمة المتجددة (الحزب الدستوري الحرّ...) و 'الثورة المحافظة' القديمة المتجددة (النهضة ...) مع ضعف "خيار ثالث" ثوري جديد فعليا -رغم وجود بعض عناصر تبلوره التي لا تزال متقادمة فكريا و مشتتة تنظيميا وغير متبلورة سياسيا- يقوم بدور 'المنقذ السياسي' بحيث عوّضه اتحاد الشغل بدور 'المنقذ النقابي' من الأزمة عبر دعوته للحوار بعد فشل' الحكومة المستقلة ' (للمشيشي) في الحفاظ على استقلاليتها من خلال خضوعها لوسادتها البرلمانية-السياسية ، واثر فشل حكومة الفخفاخ الوسطية في الصمود بسبب أخطائها التي بررت بها قوى 'الثورة المحافظة' التملص منها والاتجاه الى التحالف مع حزب الفساد .

5-

اننا اذن ، من كل النواحي ، وأوّلها الناحية السياسية-الحزبية ، في وضعية الاقتراب من أزمة رجعية انسحاقية ولسنا في وضعية أزمة ثورية انبعاثية كما يظنّ بعض الثوريين القدامى رهانا على بعض التحركات الاجتماعية ، و هذا ما يبرّر الحديث عن 'الانقاذ' عموما وما يفسر طرحه من قبل قوة نقابية وطنية تحديدا وليس من قبل سياسية وطنية .

ان كل الفاعلين السياسيين الرجعيين والاصلاحيين والثوريين القدامي و الجدد لا يستطيعون الحكم لا لوحدهم و لا مع غيرهم ، ليس فقط بسبب الضعف المعمم (ولو الموزع بنسب مختلفة) حتى لو حصل اتفاق بين بعضهم ، بل وكذلك بسبب انعدام الثقة السياسية الذي اختبرناه مؤخرا في محطات فشل تشكيل حكومة الجملي و سقوط حكومة الفخفاخ 'التوافقية' وانسداد أفق حكومة المشيشي 'المستقلة' مع سوء العلاقة بين الرئاسة والأغلبية البرلمانية بحيث وجدنا أنفسنا في أزمة انسداد سياسي ومؤسساتي تكاد تؤدي الى عطالة حقيقية، وهي العطالة التي تعطي للثورة المضادّة السياسية الذريعة لتقديم برنامج الصراع اللاديمقراطي المفضوح للتخلص من تيار الثورة المحافظة -التي ضعفت ولكن التي لا تزال قوية بارتباطاتها الداخلية والخارجية - كحل جذري وحيد للخروج بالبلاد من الأزمة الحالية ولو على حساب مكاسب الثورة السياسية الديمقراطية و السلم الاهلي والسيادة الوطنية.

6-

و من بين مظاهر الأزمة ايضا كون القوى الوطنية الاجتماعية الديمقراطية الاصلاحية منها و الثورية ،القديمة منها والجديدة ، من اليسار و الوسط القديم و الجديد ، لا يمكنها اليوم لا قلب الطاولة سياسيا -برلمانيا حتى لو تمت الدعوة الى تقديم الانتخابات التشريعية ، و لا قلبها سياسيا-شعبيا من خلال حل انتفاضي جذري عبر 'حكومة ثورية مؤقتة' كلاسيكية مثلا، ليس فقط لأن الاحتجاجات الشعبية المتواصلة لا تطرح على نفسها هذا البديل الآن الا في بعض حلقاتها النخبوية المجهرية ، بل كذلك لأنّ القوى المذكورة أعلاه ضعيفة وعاجزة من النواحي النخبوية و الشعبية و التنظيمية الداخلية و أضعف وأعجز من ناحية العلاقات الدولية.

ولكن، وهذا ما هو أخطر على المستقبل المتوسط و حتى البعيد ، يمكن القول أن هذه القوى تعاني فعليا اما من نزعة اصلاحية و ثورية تقليدية بحيث لا تقطع فيها الأولى،الاصلاحية، مع الليبيرالية الجديدة و لا تقطع فيها الثانية ، الثورية، مع الاشتراكية القديمة ('العلمية' و 'العربية') ، واما تتبنى نزعة 'ثورية جديدة' فقيرة -بلا فكر و بلا برنامج سياسي ثري و بلا تنظيم قوي - بحيث تكون بالفعل صنفا من الشعبوية (وان هي الى اليوم في عمومها وسطية سياسية ولا هي يمينية و لا هي يسارية ) تضر بنفسها وتخيف أصدقاءها قبل خصومها وأعدائها في لحظة تاريخية مفصليّة تهيمن فيها على رئاسة الجمهورية.

وبمعنى ما قد تكون فيه مبالغة بسبب الجهل بمراجعات البعض الفكرية و السياسية ، يمكن القول انّ حزب 'التيار الديمقراطي' يعتبر الآن، في عمومه وبقطع النظر عن بعض مواقفه الضبابية و قلة تجربة قياداته السياسية ، الحزب الوحيد الجديد - الذي نشأ بعد الثورة- الذي يقترب من روحية الفكرة الوطنية الاجتماعية الديمقراطية التي تحافظ على المكتسبات وتدعو الى الاصلاح من داخل التجربة الديمقراطية -بما فيها الكونية ان كان لكل الحزب نفس موقف محمد عبو من حقوق الانسان- رغم كونه الى اليوم يتجنب الاقتراب من اليسار التقليدي فكريا وتنظيميا بحيث يبقى اقرب الى الوسط السياسي الجديد الذي لا يزال أقرب الى اليمين والوسط التقليديين سياسيا بسبب أصول بعض قياداته وجماهيره من ناحية وضغوط اليمين عليه من ناحية ثانية وأخطاء اليسار تجاهه من ناحية ثالثة. وهذا ،مع الأسف، يمكن امّا أن يدمّر الحزب مستقبلا -كما حصل مع أهم أحزاب الوسط السياسي التونسي- أو يحدّ من حجمه بتعمق الأزمة ان لم يعمق أطروحاته ويدفع بها أكثر نحو اليسار الاجتماعي ذي الآفاق الكونية كي يكون أقرب الى مثقفيه و مناضليه السياسيين والنقابيين وجماهيره و أقدر على المساعدة في الذهاب ضمن أفق جديد نحو الجمهورية الوطنية الاجتماعية الديمقراطية التي لم يعد من الممكن أن تكتفي حتى بتكرار سياسة 'الليبيرالية الاجتماعية' الكلاسيكية.

وبالوصول الى هذا الحدّ يمكننا العودة الى مسألة 'الحوار الوطني' المطروحة الآن لتقديم بعض الأفكار الأساسية.

7-

أ-

تونس اليوم تحتاج فعلا الى حوار وطني يبقى رغم كل عيوب نتائجه الممكنة أفضل من الانسحاق الوطني ومن الاحتراب الوطني -اللذين يحددهما الأقوياء ويتضرر منهما الضعفاء دائما-. ومن الجيّد أن كان هذا الحوار باقتراح من منظمة وطنية مستقلة كاتحاد الشغل ومن الجيّد أيضا قبوله من قبل رئاسة الجمهورية كسلطة وطنية عليا. ولكنه لا يجب النظر الى كلّ من يرفضون مبدأ الحوار الوطني من اصله لا كخونة ولا كمخرّبين بالضرورة ، اذ منهم من يقومون بذلك بدافع وطني من ناحية وبرغبة في تجذير الديمقراطية من ناحية ثانية .

وهؤلاء تحديدا سيمثلون المرآة التي تعكس ، وهي تنقد ، حدود هذا الحوار ونتائجه المتحققة فيساعدون على التطوير. وحدهم من يطرحون الاقتتال و /أو الاقصاء التام وهم على علاقات مشبوهة بدوائر أجنية من يجب الحذر منهم عبر عدم السقوط في فخاخهم الآن. و اذا كان من الأرجح انهم سيقصون أنفسهم بأنفسهم من الحوار فانه ،ان قبلوا به ، يجب منعهم من تعطيله أو تمطيطه أولا ، ويجب انجاز نتائج تضعفهم وتؤدي الى افشالهم ثانيا و الا فسيكون افشال الحوار أثناء وقوعه أو فشل نتائجه بعد حصوله خدمة لهم ولخصمهم في الاستقطاب الثنائي الذي تغذية قوى اقليمية ودولية ضد التجربة الديمقراطية التونسية .

ب-

لابدّ من تجنيب تونس ، المتأزمة أكثر ما يكون من التأزّم الآن ، تجربة التعطيل السياسي لمجموع مساراتها الانتخابية الكلية الرئاسية و التشريعية مع قبول أن يتم ذلك جزئيا و بالطرق القانونية كاتخاذ اجراءات ناتجة عن تقرير دائرة المحاسبات حول القائمات الانتخابية مثلا. و من هنا، سياسيا، لا فائدة سياسية اليوم ، حسب رأينا ،لا من الدعوة السياسية لتقديم الانتخابات التشريعية ، ولا من الدعوة الى عدم التعاطي تماما مع موازين القوى البرلمانية الحالية ، ولا من الدعوة السياسية الى اقالة رئيس الجمهورية . ويجب أن يكون الحوار الوطني واضحا في هذه المسألة ليبقى مصير الحكومات الآن وحده قابلا للمراجعة الكلية ولكن بالروح الحوارية الوطنية.

ت-

من الناحية الحكومية، لا بدّ من تذكر مسالة العجز الموزع ، وان بتفاوت، بين الجميع عن الحكم و مسألة انعدام الثقة السياسية بين شركاء الوطن التي ازدادت سوءا اثر انتخابات 2019 وذلك بعد فشل تجربة التفاوض حول حكومة الجملي و بعد سقوط حكومة الفخفاخ و بسبب انسداد افق حكومة المشيشي الحالية.

ان القوى السياسية الرئاسية-البرلمانية فشلت الى الآن في انجاح كل من مبدأي 'التوافق' و'الاستقلالية' ، وعليها أثناء الحوار الوطني أن تعرف جيّدا درجة ما تحقق خلاله من استرجاع ثقة حتى تقرر العودة اما الى حكومة توافق جديدة أو حكومة مستقلة جديدة والا فإنها ستحكم على الحوار الوطني بالفشل مسبّقا. وهنا لا بدّ أن يتحمل رئيس الجمهورية وحزب النهضة مسؤوليتهما كاملة أكثر من أي طرف آخر بسبب مكانتهما الرئاسية والبرلمانية. فاذا تبين مثلا انه لا أحد مازال يثق في الحكم مع النهضة من الكتل البرلمانية -سوى كتلة الفساد التي تحصل معها على الأغلبية هي وكتلة ائتلاف الكرامة ...- فانه من الواجب القبول بحكومة مستقلة حتى 2024 ان لزم الأمر ، و الا فلا معنى لكل الحوارات الوطنية.

ث-

من الناحية المؤسساتية عموما، وبالتفاعل مع الفكرة القائلة بضرورة المحافظة على النتائج الاجمالية لانتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية، لا بدّ من أن يحسم الحوار الوطني نهائيا بما أمكن من روح وفاقية في مسألتي المحكمة الدستورية ومسألة اختصاصات السلط الدستورية. انه لا معنى لحوار وطني بين أطراف تسعى الى تسييس المحكمة الدستورية والى السطو على اختصاصات بعضها البعض الدستورية.

يجب الاتفاق نهائيا على تركيبة المحكمة الدستورية و على احترام حصرية اختصاص رئيس الجمهورية ووزير الخارجية في السياسة الخارجية التي يجب أن تقوم على الاستقلالية عن كل المحاور الاقليمية والدولية ، وعلى احترام اختصاصات مجلس النواب التشريعية والرقابية في نفس الوقت الذي يقع فيه الاتفاق على حكومة توافقية ، مستقلة كانت أم سياسية أم ثنائية ، بحيث يقوم رئيس الجمهورية بوظائفه دون تشكيك في شخصه ومكانته بالتعاون مع باقي مؤسسات الدولة و بحيث يساهم مجلس النواب في تزكية الحكومة ومراقبتها وتحويرها وتشريع القانون دون المساس الاجمالي بتركيبته الحالية مع امكان المساس الجزئي بذلك بالطرق القانونية.

ج-

وبالتوازي مع المسائل السياسية و المؤسساتية التي يجب أن يضاف اليها تأكيد المحافظة على الحقوق والحريات السياسية التي تنتهك من حين لآخر من قبل الحكومات المتعاقبة بما فيها الحالية، يجب على الحوار الوطني أن يحسم المسائل الاقتصادية ببرنامج انقاذ حقيقي ينقذ ما لا يزال ناجحا و ناجعا من سياسات و مؤسسات وطنية و يصلح الباقي بعيدا عن عقلية 'التفويت الآلي' التي تأمر بها المؤسسات المالية الدولية وأبواقها في الداخل و عن عقلية 'الاحتفاظ الآلي' بها و التي يعكس بها البعض الخطاب باسم الوطنية دون رؤية استراتيجية .

و يجب أن يتمّ ذلك بمرونة تأخذ بعين الاعتبار النجاعة الاقتصادية و الضرورة البشرية بعيدا عن التوظيفات الفئوية- السياسوية و الفئوية-النقابوية ضمن مشروع اصلاحي وطني يخرج البلاد من الأزمة ليس فقط بمنطق الانتاجية العامة -التبادلية العامة -الاحصائية، بل وكذلك بمنطق التوزيعية -الاستهلاكية العامة التي لا تخدم فقط السوق الاقتصادية وأباطرتها بل كذلك الفئات الفقيرة و المتوسطة الشعبية. و ان كان من البديهي أن لا يتم هذا الا بسياسية'ليبيرالية اجتماعية' ،على الأقل ، فانّه لا سبيل الى تحقيقه الا ضدّ السياسات الليبيرالية الجديدة الرسمية و 'اللاسياسات' الموازية المافياوية التي خرّبت حتى مصالح الطبقات الغنية الكلاسيكية التي مع ذلك بقيت تمارس أبشع أشكال الاستئثار و الاستغلال و أرذل طرق التهريب المالي الخارجية و التهرّب الضريبي المحلية .

ح-

كما يجب أن يثبّت الحوار الوطني السياسة الوطنية- الاجتماعية في الميادين الاجتماعية و الثقافية و البيئية بحيث تعطى للحقوق في التكوين المهني و العمل و التعليم و الصحة والنقل و الثقافة والترفيه و البيئة...المكانة اللائقة بها كي يستفيد منها الجنسان و الطبقات و الشرائح الاجتماعية والأجيال و الجهات... بأكبر قدر ممكن من العمومية (للجميع) والشمولية (في كل الميادين) و الاستمرارية (لكل الأجيال) لأنّه بذلك الشرط فحسب يمكن أن يصبح للحوار الوطني معنى وطنيا -شعبيا ولا يبقى مجرد حوار بين المهيمنين اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا لامتصاص صراعاتهم الخاصة و غضب الغالبية القصوى من الفئات الشعبية.

خاتمة : من 'المساومة السياسية' الى 'التسوية التاريخية'

لن يكون للحوار الوطني المزمع تنظيمه في القريب من معنى اذا كان الهدف منه "المساومة السياسية" المؤقتة بين فرقاء الوطن السياسيين المهيمنين الآن بهدف تهدئة الجو الحالي واقصاء أو اضعاف أطراف بعينها وتأجيل الصراع الى وقت لاحق يعول على انقلاب موازين القوى الداخلية و الدولية . انّ الأزمة التونسية الحالية ، والمنتظر تفاقمها ، أصبحت عميقة بالقدر الذي يمكنها فيه أن تهدد '' الشقف/المجتمع '' الذي يركبه الجميع وأن تهدم "السقف/الدولة" الذي يحتمي به الجميع ،و هي لذلك فرصة، للعقلاء من الوطنيين دون غيرهم ، بأن يجعلوا من الحوار الوطني المؤقت حول مساومة سياسية مؤقتة فرصة و مقدّمة لحوار وطني متواصل حول شروط " تسوية تاريخية" مستقبلية أكثر عمقا تكون رافعتها "كتلة تاريخية " جديدة تقتنع انه يمكن للتونسيين أن يستفيدوا من تجارب الانتقال الديمقراطي العالمية للتأسيس لمستقبل وطني اجتماعي ديمقراطي قدر الامكان في عالم مجنون واقليم ممحون .

وعليهم أن يتذكّروا انه بالرغم من كل شيء سلبي حصل في تونس ، وأوله ملف الاغتيالات السياسية وسياسات تسفير المقاتلين نصرة للتنظيمات الارهابية الذي يجب ان يتولاه الامن الوطني والقضاء بكل الجدية، فانّه لم يحصل في البلد ما حصل من تقاتل اهلي و اجرام استبدادي في بلدان كجنوب افريقيا أو لبنان أو غيرهما ، وأنه يبقى الى الآن البلد العربي الوحيد الذي يمكن أن يصف نفسه بعد ما اصطلح على تسميته 'الربيع العربي' كواحة سلام ديمقراطي ، ولو منقوص طبعا ؛ واحة خضراء لا تختلف فقط عن صحاري الأشقاء الاستبدادية بل كذلك عن مقابرهم الاحترابية . كما يمكنهم أن يفتخروا بالبلد و بتاريخه الخاص القديم و الحديث و المعاصر حتى الثورة و ما تلاها رغم كل النقائص ليرسموا عبر تلك "التسوية التاريخية" الضرورية و الممكنة الى حدّ الآن ، و " قبل وقوع الفأس في الرأس" ، بداية أمل جديد في انطلاقة تاريخية جديدة لشعبهم.

ولهؤلاء جميعا نقول :

كونوا وطنيين اصلاحيين منقذين جذريين الآن من احتمال الانسحاق بالإفلاس والفوضى... وستقدمون للوطن والشعب أفضل ماهو قابل للتحقيق اليوم وسيذكركم ثوريو المستقبل في كتبهم كأبطال تاريخيين اقتصدوا في جنونهم وفي اوهامهم وحققوا بالعقل احلام شعبهم بمرونة القادة الحقيقيين.

هذه فقط بعض أفكار عامة قد تساعد وقد لا تساعد . وأقصى طموحها التنبيه الى خطورة الوضع و الى أهمية التحلي بروحية جديدة قبل فوات الأوان لتحويل الأزمة الى فرصة. ولكن العقل متشائم حول 'التسوية التاريخية' رغم امكان تفاؤل الارادة النسبي حول نجاح "المساومة السياسية' ولو من باب ما يمكنها أن تخلقه من "نتائج مفارقة" لما ينويه المتساومون ...ولكن الحذر يبقى مطلوبا !

و اليوم هو الفاتح من أفريل ، ونرجو فقط ألا نكتشف كذبة الحوار الوطني الحالي بعد أسابيع لأنّه في وضع الأزمة العميقة الحالي ، و دون الانكار المثالي لحتمية، بل وضرورة تواصل الاختلاف و الصراع بعيدا عن يوطوبيا الوحدة التامة و لكن ، ان لم يرسّخ نهائيا ثقافة عدم 'الضرب تحت الحزام ' القانوني والأخلاقي و 'عدم الضرب في الظهر' الوطني والاجتماعي والديمقراطي فقد تكون الكذبة ربّما ،لا سمح الله و/أو التاريخ ، آخر'كذبة وطنية' سياسية تونسية !

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات