محاربة الفساد ومنظومة الاقتصاد

الريعي جزء من معركة بناء الديمقراطيّة.

لاحظوا أنّ كلمة "فساد" و"محاربة الفساد" وتقريبا كلّ ما اشتقّ من جذر (ج.ذ.ب) انسحبت من خطاب جهات سياسيّة كانت تلهج بها في هذه السنوات وكادت تجعل من محاربة الفساد أصلا تجاريّا في الصراع السياسي.

وقد كنّا نبّهنا في أكثر من مرّة، أثناء "الفخفاخ ڤايت"، وقبل إقالة حكومته، أنّ الأمر سيتجاوز إسقاط حكومة الفخفاخ إلى إسقاط "مبدأ محاربة الفساد" أخلاقيّا ومن ثَمّ سياسيّا، ومن قِبَل من حُسبوا على الصف الثوري المزعوم.

مع يقيننا بأنّ مبدأ محاربة الفساد لا يسقط. ولكنّنا عنينا يومها أنّ الارتجال والشعاراتيّة والانتقائيّة واستسهال المهمّة في موضوع الفساد وعدم استجماع الشروط الأساسيّة فيها قد يدعم، إلى حين، أطروحة المنظومة.

وتقوم وجهة نظرها المروّج لها في إعلامها أنّ "شعار محاربة الفساد واعتبار الفساد بنية تخترق الدولة والاقتصاد" لا يخرجان عن الشعبويّة والاستثمار السياسي. وأنّ المطلوب هو تسويّة ملفّات عالقة لا أكثر!!!

بعد التسريبات والتصريحات، خرجنا من كلّ هذا. وتبيّن أنّ من كان يرفع شعار محاربة الفساد لم يسهم فحسب في إسقاط المبدأ بالمعنى الذي ذكرنا وإنّما هو اليوم منخرط في إسقاط الانتقال إلى الديمقراطيّة. وهو بذلك أدّى مهمّتين: إسقاط مبدأ محاربة الفساد باسم المحسوبين على الثورة، ويثابر في إسقاط الانتقال إلى الديمقراطيّة بالعنوان الكاذب نفسه. وإسقاط مسار بناء الديمقراطيّة والمواطنة باسم ثورية منتحلَة أبشع من الخيانة.

ونحن نعلم أنّ المهمّة الأولى والثانية لا يمكن أن تكونا بعيدتيْن عن استراتيجيّة القديم المتحوّلة واللاعبة على أكثر من حبل والمستفيدة بتفوّق من كلّ التناقضات…

ولكن إذا كان لابدّ من أن يسقط ما هو قابل للسقوط فلا أقلّ من أن يكون بأيديهم وبعنوان خصوم الديمقراطيّة والحريّة والمواطنة لا بعناوين مضلّلة، فالحرب سجال. وعنوان المعركة الفعلي مهم وله أثره بعيد المدى على قادم المعارك.

نقول هذا، ونحن على يقين من أنّ مسار الانتقال إلى الديمقراطيّة يكتسب أسباب المناعة قدما، رغم الإرباك غير المسبوق في أعلى مؤسسات الدولة، ودور الشعبويّة والفاشيّة وما جاورهما فيه، بعد انتخابات 2019.

مبدأ محاربة الفساد متواصل. يقوده من لم نشكّ يوما في مصداقيّتهم وإن اختَلَف التقدير السياسي. فمن كانوا ينافسون الصديق عماد الدايمي (نشد بقوّة على يديه وندعم مرصد رقابة) وهي منافسة محمودة لو استجمعت شروطها، لا تسمح لهم سيرتهم السياسيّة في أقل من سنة ونصف من أن يقفوا إلى جانبه اليوم. ولم يعد بإمكانهم نطق عبارة فساد بالراحة المطلوبة، فاستعاضوا عنها بعبارة "نفايات" (حديث مهزوب عن الفساد). وقلناها من وقتها "ما يبقى كان الصحيح" و"يطوال السفر وبرتخي الطفر". وكنّا في ذلك ننبّه إلى جسامة المسؤوليّة وكانوا يرونه مناكفة حزبيّة.

وأمّا من هرب إلى لوبانة "الاقتصاد الريعي" (الحق المراد به غيره) مشدّدا على أنّ الاستقطاب السياسي الذي أفرز وجهين لعملة واحدة (النهضة/عبير) زاد من تهميش الموضوع الأساسي (اقتصاد الريع). وهذا أيضا لا يختلف عمّن أسقط "مبدأ محاربة الفساد" بدعوى محاربة الفساد.

والحقيقة أنّ الصراع السياسي الحالي بأفق استكمال مسار بناء الديمقراطيّة هو شرط محاربة الفساد وقاعدته المتمثّلة في الاقتصاد الريعي.

وكما أشرنا في أكثر من مناسبة إلى أنّ الانتقال السياسي شرطٌ للانتقال الاقتصادي الاجتماعي، فيكون ترسيخ الديمقراطيّة واستكمال مؤسساتها وتحييد القوى المستهدفة لها من شعبويّة وفاشيّة في صلب المعركة ضدّ الاقتصاد الريعي.

ولا يعني هذا التأكيد أنّ الحرب على الفساد والاقتصاد الريعي عنوانان مؤجّلان إلى أن نستكمل بناء الديمقراطيّة (الشرط السياسي). وإنّما المقصود تبيّن الأصل (بناء الديمقراطيّة ) من الفرع (محاربة الفساد) وأنْ يكون العمل عليهما متوازيا وبتقديرات دقيقة تدفع إلى تكاملهما. من ذلك مثلا أن ننتبه إلى مواقع القوى السياسيّة في هذه المعركة وهي ليست بشرطه ثابتة. فعلى سبيل المثال قد ينبّهنا هذا العمل المتزامن على الأصل والفرع إلى أن بعض القوى السياسيّة المحسوبة على شروط الانتقال ودعم الديمقراطيّة (النهضة مثلا) تنحرف في سياق الصراع باتجاه علاقة بالسيستام (الفساد، الاقتصاد الريعي) تضادّ شروط الانتقال، فيكون ذلك مدعاة لإعادة ترتيب فوري للصفوف ومواصلة المعركة وكشف ما يجب كشفه.

على ضوء هذه الرؤية لا يمكن لمن يضع يده اليوم في يد الشعبويّة أو يعتبر ما تقوم به الفاشيّة وجهة نظر، أو لا يعتبر التصدّي للفاشيّة والشعبويّة أولويّة أن يتحدّث عن "محاربة الفساد" أو فتح ملف الاقتصاد الريعي" الوجه الآخر للسيستام.

في كلّ الأحوال الأزمة تنفتح على حلّ سياسي داخل معركة سياسيّة أراد لها خصوم الانتقال أن تفضي إلى "بلوكاج سياسي". نرجو أن يكون هذا لصالح الانتقال. وهو ما يعني سياسيّا إنهاء "الصراع ضدّ الديمقراطيّة"، ومواصلة "الصراع الديمقراطي" تحت سقف الدستور والديمقراطيّة، مع احترام فصول الأول والالتزام بقواعد المنافسة السياسيّة في الثانية لاستكمال تأسيس المواطنة. وفي ذلك انتصار غير هيّن للحوار الوطني الفعلي وهو مختلف كثيرا عن محاولة الانقلاب على الديمقراطية في 2013 تحت العنوان نفسه: "الحوار الوطني". هكذا هي السياسة قد تخفي تغيّراتها (انكساراً وانتصاراً) باستعادة العنوان نفسه لسياقات مختلفة ومعارك متباينة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات