السياسة المستحيلة في تونس؟؟؟

حَكَم بورقيبة.. ولم يسمح بنشأة السياسة كمجال تفكير وفعل مفتوح للمشاركة المجتمعية الواسعة. فقد أصيب سريعا بجنون عظمة الأب/الزعيم المؤسس الأوحد وتملّك الدولة والناس. ورغم أنه وضع الشروط الدنيا لتأسيس دولة حديثة من تعليم وصحة وإدارة، سرعان ما سقط في "إهمال الدولة والناس " ليتمركز حول ذاته المنحرفة المريضة بوسواس الحكم الأبدي ليجعل من البلاد نهبا لمقربين يتلهفون لزواله.

في لحظة ما تبنيت الرأي السوسيولوجي البنيوي القائل بلا تاريخية المطلب الديمقراطي زمن بورقيبة بذريعة أن سياق الاستقلال وتأسيس الدولة لم يكن يسمح ببناء تعددية سياسية وديمقراطية ليبرالية في ظل مجتمع أمّي وفقير وقبَلي ثقافته خرافية.. وتناسينا أن التعددية السياسية كانت واقعا فعليا خلال معارك التحرير، وأن العالم جرّب كل مدارس السياسة والنخب التونسية اطلعت على تلك التجارب وعاشتها. ولولا أن اتحاد الشغل كان مندمجا في الدولة إلى حدود هروب بن صالح، لما تمكن من الصمود في "غفلة" من بطش بورقيبة الذي انتبه متأخرا من غفلته عن نقابة ستلعب دور الحاضنة الكبرى للمعارضة السياسية رغم كل الأضرار التي ألحقتها بها الدكتاتورية الفاسدة.

بن علي الأمني شبه الأمي بنى على نفس فكرة.. فكرة الاستعداد الدائم لديمقراطية مؤجلة. وبعد أن وعد بالقطع مع الرئاسة مدى الحياة، ورغم وجود نواة معارضات ديمقراطية وحقوقية حقيقية سرعان ما حاصرها وكتم أنفاسها،عاد سريعا إلى الاستبداد شبه العاري ومنع السياسة.. وأعلن عن "نظرية" الديمقراطية قطرة قطرة مراعاة لعدم نضج التونسيين للديمقراطية دفعة واحدة، واكتفى إلى آخر أيامه بديكور حزبي ممثَّل شكليا في برلمان شكلي.

ثم حدثت ثورة بعد حوالي نصف قرن من الصراع المفتوح بين دولة الحكم الفردي ثم العائلي المافيوزي والمجتمع الممنوع من السياسة.

حدثت الثورة وانفتح المجال السياسي (نظريا) أمام الجميع. ومع ذلك ما زال المجتمع التونسي لم يشهد ولادة السياسة كتدبير عقلاني ناجع للشأن العمومي.

في مناخ حرية استثنائية في حجمها ومفاجئة لوعينا الذي لم يعرف الحرية على امتداد تاريخنا الطويل.. يبدو أننا نبتعد أكثر عن فكرة السياسة. وبعد عشر سنوات كثيفة سياسيا إلى حد الاختناق، لا نجد لدينا أحزابا حقيقية قادرة على بناء الديمقراطية بما هي تنافس حزبي حول تصورات مختلفة وبرامج عملية لتحقيق حاجيات مجتمع كل ما فيه معطّل تقريبا.

مؤسسو الحركة الديمقراطية/الحقوقية الليبرالية بداية الثمانينات فشلوا في تأسيس حزب يحقق شعارات تلك المرحلة. الباجي نجح بشكل مبهر في تجميع بقايا تلك المرحلة في حزب نداء تونس، ولكن هرمه وابنه/عائلته وانتهازية المؤسسين من حوله بدد كل ما بناه.


• تكتل بن جعفر الديمقراطي الاشتراكي اندثر

• مؤتمر المرزوقي اندثر

• الحزب الشيوعي اندثر

• حزب العمال الشيوعي أكبر فصيل يساري شبه اندثر

• ومثله التنظيمات اليسارية والبعثية…

• ماذا بقي للشروع الفعلي في الديمقراطية/السياسة؟ :

النهضة.. وبعد أن كانت لعقود حركة سرية تطالب بالاعتراف القانوني، وترجئ الحسم داخلها في هويتها السياسية، تنتهي زمن الحرية إلى كيان مائع لا هو حزب سياسي ولا هو جماعة دينية ولا هو مستودع ذكريات.. انتظام تاريخي عاطفي تحت عناوين هلامية من نوع "الإسلامية الديمقراطية" من دون مضامين سياسية عملية.

حزب عبير الذي يمثل بفجاجة مهينة لفكرة السياسة رؤية بن علي في الحكم. هو فقط يعد بالانتقام من كل من ساهم في إسقاط زعيمه.

حركة الشعب حزب شبه سري يمثل امتدادا لزمن الايديولوجيات الكبرى المغلقة. لن تجد له نصا تونسيا حول الديمقراطية. وبالتالي لا نستطيع أن ننسبه باطمئنان للسياسة.

حزب التيار الديمقراطي.. هو من ثمار حراك ما بعد الثورة.. وبعد أن نجح في صياغة هوية سياسية خاصة تتمحور حول مقاومة الفساد كمدخل للإصلاح السياسي وتطهير المجال السياسي، وبعد أن نجح في تعبئة فئات شبابية من خارج جمهور عائلات الايديولوجيات التقليدية، سرعان ما خذله مؤسسوه بارتكاب سلسلة من الأخطاء المجانية لينتهوا سريعا إلى تبديد رصيد سياسي جديد كان يمكن أن يتطور ويكبر.

إذا أضفنا إلى هذا المشهد رئيسا عجيبا لا يمكن فهمه بأدوات السياسة.. ننتهي إلى نتيجة بسيطة ومخيفة : كل مكونات المشهد السياسي تحمل إعاقات تكوينية تمنعها من الانتماء النهائي إلى "العقل السياسي". طبعا سيعترض أصدقاء كثر على منطق التعميم اللامنهجي والمحبط.. وربما نبهني بعض محبي التفاؤل إلى أن التاريخ يسير حتما نحو التقدم..

لهؤلاء أقول : حدسي يقول لي أن لا شيء يمنع التاريخ من أن يظل "يلكلكنا" لعقود طويلة.. لا هو يبتلعنا ولا هو يلفظنا.

هكاك شماتة فينا…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات