مع الصّافي

أحبّ أن أذكر أمرا خاصّا عن الأستاذ الصّافي سعيد ذكّرنيه ظهوره التّلفزيّ بعد خروجي من السّجن كانت أبواب الرّزق محكمة الغلق في وجهي ووجوه زملائي من المساجين السياسيين الذين غادروا السّجون ...

كنت أعمل في الأسواق الأسبوعيّة تحت الحصار والرّقابة اللصيقة والتّفتيش حول مصدر البضائع التي كنت أبيعها ... صراع يوميّ من أجل حمل كيس البضائع في النّقل العمومي وتأمين مكان عرضها وتسويقها وووو

في الأثناء كنت أبحث عن مورد رزق إضافيّ بعيد عن أعين العسس والمخبرين ... كان الأمر مستحيلا فلم يكن أحد يقبل توظيف سجين سياسيّ على أيّ وجه كان ... وصادف أن طالعت في مجلّة كنت أقتنيها طلب انتداب مترجم ... توجّهت إلى مقرّ المجلّة ...

التقيته ولم أكن أعرفه من قبل بشكل مباشر ... سلّمني مقالا بالفرنسيّة لترجمته إلى العربيّة حول الشّأن الإفريقي في شكل اختبار وتجريب من أجل الموافقة على مواصلة العمل في المجلّة التي كان عنوانها أفريكانا وكان مديرا لها ... قضيت أيّاما لترجمته وبذلت جهدا للتّدقيق اللغوي والمضموني وتجنّب التّرجمة الحرفيّة وتحريف المعنى وسوء الفهم ...

سلّمته المقال المترجم وضعه على مكتبه وقال سننظر فيه ونتواصل معك ... مرّت أيّام ولم يتّصل بي أحد ... أحسست بالإحباط والشكّ في كفاءتي في التّرجمة ... كنت أقلّب النصّ الأصليّ ونصّ التّرجمة بحثا عن ثغرات وإخلالات قد تكون حالت دون التّواصل معي …

صادف أن مررت بعد مدّة بكشك الجرائد فاشتريت العدد ولم أهتمّ بتصفّحه وربّما ندمت لشرائه ... عند عودتي إلى المنزل بدأت في تصفّح أوراقه وفجأة قرأت اسمي على رأس المقال الذي نشر بإخراج جيّد أنيق ... كان يوما فارقا في حياة سجين سياسيّ محاصر ملاحق ...

لم أنتظر أن يتّصلوا بي ... قصدت المجلّة التقيته فأثنى على التّرجمة واستحسن ترجمة بعض العبارات ... ثمّ سلّمني مجموعة مقالات بعد خلاص المقال الأوّل على غير عادة من هم في وضعي ...

بعد مدّة صرت أسلّم ما أترجمه بشكل فوريّ ... كان يتفرّس فيّ وفي طريقة حديثي حتّى فاجأني ذات يوم بقوله : أنت وراءك قصّة …

غادرت وفي ذهني عديد المشاعر والأسئلة المتدافعة ... هل أعلمه ؟ كيف ستكون ردّة فعله ؟ هل سينهي المهمّة لو علم بحقيقة وضعي كما فعل مدير مدرسة خاصّة ألغى المهمّة وأسند الأعداد نيابة عنّي ؟

تسلّحت بالشّجاعة وقلت في نفسي الرّزق بيد الله ولعلّ وجودي معه يتسبّب له في مشاكل مع السّلطات، وربّما عدم الصّدق يكون شكلا من الغشّ ومثارا لعدم الاحترام ... قابلته وصارحته بأنّني سجين سياسيّ سابق، فبادرني بالسّؤال : إسلاميّ ؟ قلت نعم، فأجاب سلوكك يشي بذلك ...

رفعت عنه الحرج بطلب الاستعفاء لو كان لتواصل تكليفي بالمهمّة أيّ تبعات ... لكنّه سارع بطمأنتي قائلا أنّه يحترم المناضلين والمخالفين خاصّة إذا كانوا يتقنون عملهم …

لم يتواصل العمل لأنّ تجربة المجلّة توقّفت ... لكن ذلك الموقف بقي أثره ماثلا مهما اختلفت التقييمات السياسيّة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات