في الحزب الدستوري الحرّ بوصفه حزبا للثورة المضادّة وفي الفرق بينه وبين نداء تونس

وفي طريقة معارضته لحركة النهضة وحلفائها الحاليين: رسالة مفتوحة الى الحداثيين التونسيين

مقدّمة :

يعتبر تقييم طبيعة الحزب الدستوري الحرّ اليوم من أهمّ المسائل المربكة لما يسمى العائلة الحداثية التونسية بشقوقها اليمينية والوسطية واليسارية. ومن أكبر المسائل التي تربك تقييمهم لهذا الحزب معارضته للإسلام السياسي من ناحية و نقاط تشابهه الجزئية مع حزب نداء تونس السابق-الذي سانده بعض الحداثيين بأشكال ودرجات متفاوتة - من ناحية ثانية . ولتوضيح الأمر ومحاولة تقديم تقييم أوّلي لهذا الحزب الثوري المضادّ أقترح النّقاط التالية كأطروحات مختصرة :

0-

في هذه النقطة الصفر أرغب فقط في تسجيل ما يلي قبل المرور الى التحليل في النقاط العشر اللاحقة : من يعتبر أن ما حصل في تونس سنة 2011 هو مجرّد انقلاب يمكن أن نجيبه بأمرين:

أ‌- الانقلاب كان فعلا يوم 14 جانفي لو توقفت حركة التاريخ هناك. وهو انقلاب قام به التجمعيون على بن علي بتسهيل أجنبي حتما ولم يقم به الشعب المتظاهر فلوموا بن علي وحزبه وأمنه وجيشه و لا تلوموا الشعب.

ب‌- حسب تقييمكم هذا فانه لو عاد بن علي لاحقا لكنتم ساندتموه ولكنّه توفّي. و لو ظهر اليوم في تونس من يكون مثل بن علي لساندتموه . و هذان الأمران وحدهما يجعلاننا لا نخاطبكم بل نخاطب غيركم كما سيأتي .

1-

الثورة التونسية هي الى حدّ الآن ثورة سياسية وليست ثورة اجتماعية بمفهومها الجذري الكلاسيكي. و هي وأن كانت كذلك الا أنّها تعتبر مكسبا سياسيا ديمقراطيا رغم كونها لم تحقق أهدافها في الكرامة الوطنية والشغل و الحرية والقضاء على الفساد و انعدام التوازن الجهوي وغيرها من المطالب التي كثفتها شعارات الجماهير بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 و ما بعدهما.

2-

أصبحت الانتفاضة التونسية 2010-2011 ثورة سياسية ديمقراطية ناجزة عموما بعد سقوط حكومة محمد الغنوشي الثانية وابطال العمل بالدستور وحل التجمع الدستوري الديمقراطي و مجلس النواب و مجلس المستشارين واطلاق الحقوق و الحريات السياسية واصدار العفو التشريعي العام مجسّدة بذلك الانتقال من الاستبداد الى الحرية السياسية.

3-

لم يكن هدف تلك الثورة التونسية تغيير نمط الانتاج الاقتصادي التونسي كالثورات الاجتماعية الجذرية الكلاسيكية ،بل كان تغيير النظام السياسي الاستبدادي بنظام ديمقراطي مع انجاز اصلاحات جذرية وطنية اجتماعية ديمقراطية لا تقطع لا مع الدولة و لا مع مكتسبات المجتمع الحداثية المتراكمة منذ عهود الحركة الاصلاحية ثم الحركة الوطنية فالدولة الوطنية فالحركة الديمقراطية التونسية التي توجتها الثورة السياسية الديمقراطية.

4-

وما خلط الأوراق بعد انتخابات أكتوبر 2011 هو انتصار حركة النهضة على راس ما سيصبح لاحقا 'ترويكا' حاكمة ومحاولة هذه الحركة دفع البلاد في اتجاه 'ثورة محافظة' اسلاموية تستفيد من الثورة السياسية الديمقراطية لتغيير ما سمّي لاحقا 'نمط المجتمع' التونسي وذلك تجسّد في دستور النهضة تشريعيا بوصفه تعبيرا دستوريا عن 'الثورة المحافظة' التي عبّر عنها سياسيا تحالفها و/أو تقاطعها السياسي مع الاسلامويين السلفيين و التحريريين (حزب التحرير) في الداخل و مع الاسلاميين (وفي مقدمتهم الاخوان المسلمون) في الخارج و من يدعمهم اقليميا (قطر وتركيا) ودوليا (جناح من الحزب الديمقراطي الأمريكي).

5-

هنا ظهر 'نداء تونس' كحزب بعد أن كان الباجي قايد السبسي قد اضطلع بمهمة رئاسة الحكومة الانتقالية -بعد محمد الغنوشي- وعبّر وقتها عن اسناده لتحقيق القطيعة السياسية مع الاستبداد ورأسه بن علي الذي اتّهمه وقتها بأنّه جبان مثل "الجندي الهارب (مزرتي) " من الصفوف ، ولكن دون أن يعني ذلك القطع لا مع مكتسبات المجتمع و لا مع مؤسسات الدّولة (بدليل المحافظة على فؤاد المبزّع رئيسا للبلاد) في حركة وطنية-اصلاحية لا تضع موضع التساؤل طبيعة العلاقات الاقتصادية-الاجتماعية المهيمنة ولكن تقبل بالانتقال الى الحرّيّة السياسية .

6-

وبسبب انتصار النهضة (على رأس الترويكا وميولها المحافظة الاسلاموية الداخلية و الخارجية) عاد الباجي قايد السبسي على رأس حزب 'نداء تونس' معلنا الدفاع عن "نمط الحياة المجتمعي " الحداثي التونسي و على "هيبة الدولة" التونسية في نفس الوقت الذي يتمسك فيه بالديمقراطية السياسية. ولذلك كان نداء تونس قد جلب الأجنحة الأربعة الجديدة المعروفة داخله (الدستوريون و اليساريون و النقابيون و المستقلون) الذين حددوا لأنفسهم هدف اعادة صياغة التوازن السياسي وقلبه في افق انتخابات 2014 قبل أن يطلب منه "المعلم الكبير- أمريكا " الدخول في تجربة 'التوافق' التي أودت بحياة الباجي السياسية وبوجود حزبه في نفس الوقت.

7-

طوال كل هذه المرحلة كان وجود 'الحزب الدستوري الحرّ' ينضج معبّرا عن مصالح الدستوريين - البنعليين وسندهم الدولي (الفرنسي ثم ...الاماراتي...) الذين اعتبروا الثورة التونسية مجرّد 'انقلاب' على بن علي و فصلا من فصول 'الربيع العربي" (الأمريكي - العبري - التركي-القطري) الذي يهدّد المجتمع و الدولة تماما و هو ما جعل الحزب يعبّر كأحسن ما يكون عن 'الثورة المضادّة السياسية الدستورية ' في مواجهة ' الثورة المحافظة الاسلامية السياسية' وينمو ويصبح ما اصبح عليه الآن من حيث القوّة محوّلا الانتباه من نقد فشل 'سياسة التوافق ' النّدائية الى الرفض التام للتجربة الديمقراطية بكاملها مستغلاّ الأزمة العميقة التي تعرفها البلاد على كل المستويات الداخلية و الخارجية .

8-

هنالك اذن فرق كبير بين الباجي قايد السبسي ونداء تونس وبين عبير موسي و الحزب الدستوري الحرّ.

فعلى المستوى الشخصي يتفوق الباجي قايد السبسي على عبير موسي في أنّه ،رغم دستوريته ومسؤولياته التاريخية، كانت له تجربة ثرية كرجل دولة جعلته يطرد من الحزب سنة 1974 و يتعاطف مع حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المستيري سنة 1978 وجعلته يبتعد عن بن علي بعد تجربة قصيرة في رئاسة مجلس النواب سنة 1991 وجعلته يقيّم تجربته بنوع من الموضوعية في كتابه الذي أصدره سنة 2009.

في مقابل ذلك لا تعتبر عبير موسي شيئا اذ لم تكن يوما حتى صوتا اصلاحيا لا داخل التجمع الدستوري الديمقراطي و لا داخل المجتمع المدني في قطاع المحاماة الذي تنتمي اليه ،بل كانت على عكس ذلك بوقا لبن علي وعائلته والجناح الذي يخدمها في الحزب و الدولة حتى رحيله وبعده الى اليوم.

وعلى المستوى السياسي هو الأهم، يعتبر 'نداء تونس' حزبا اصلاحيا بعد الثورة السياسية قبل،بطريقته الخاصة، بنتائج الثورة السياسية و بقواعد اللعبة الديمقراطية التي أعقبتها فلم يكن يشكل ثورة مضادة من تلك الناحية السياسية رغم أنه لم يسع الى تجذير المكاسب الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية و الديبلوماسية للثورة التونسية وبقي يشتغل باحداثيات الحركة الحداثية التقليدية ما قبل الثورية السياسية.

في المقابل السياسي ، وهو الأهمّ، يعتبر الحزب الدستوري الحرّ حزب الثورة المضادة السياسية - السياسية تحديدا- الذي يرفض الاعتراف بالثورة السياسية و بمطالبها و حتى بالترحم على شهدائها و السعي الى علاج و تعويض جرحاها و هو يستغل قواعد لعبتها الديمقراطية لتعطيلها الآن ولإلغائها لاحقا اضافة الى أنّه ،هو نفسه، لا يحمل أيّة رؤية جديدة للسياسات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و الديبلوماسية ولا يعبّر عن حداثية جديدة تسير باتجاه الدولة الوطنية الاجتماعية الديمقراطية التي تسعى تونس الى انتهاجها.

9-

انّ الموقف من الحزب الدستوري الحرّ لا يمكن اذن أن يكون موقفا ايجابيا فقط لأنّه يعلي صوته ضد الحركة الاسلامية لأنّه تحديدا يعبّر عن نزعة ثورية مضادّة سياسيا ، اذ ليس المطلوب من الحداثيين الاختيار بين الثورة المضادة الدستورية و الثورة المحافظة الاسلامية بل الدفاع عن الثورة السياسية -ضدّ الثورة المضادة السياسية - وعن تجديد الحداثة -ضدّ الثورة المحافظة الاسلامية - و عن ضرورة تجاوز الحداثة الاستبدادية التقليدية في افق وطني يسعى الى تركيز الجمهورية الاجتماعية الديمقراطية تخدم عموم الجماهير الشعبية و التي لا حلّ بدونها الآن اذا رغبنا التحول الى حركة شعبية. .

انّ سحب الموقف من التقاطع أو التحالف مع 'نداء تونس' في تحالف سياسي منظم (كما وقع في 'الاتحاد من أجل تونس' ) أو في تنسيق سياسي ميداني (كما وقع في 'جبهة الانقاذ' ) غير جائز لأنّ الحزب الدستوري الحرّ لا يعترف لا بالثورة السياسية و لا بالديمقراطية السياسية التي كانت من نتائجها و لا يدعو الى الدفاع عن المكاسب الحداثية التونسية من وجهة نظر شعبية بل يسعى الى اعادة نظام سياسي- وليس اشخاصا كما يردد البعض عندما يقولون :بن علي مات) يكون نسخة من النظام السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي الذي ثار ضدّه الشعب في 2010-2011 ولا يزال يحتجّ ضدّه وضدّ من يسنده في اسوأ حالاته فسادا الآن كما يفعل ذلك تحالف الترويكا الحالية : النهضة -قلب تونس -ائتلاف الكرامة).

10-

ان الحداثي اليميني و الوسطي و اليساري التونسي الذي يدعو اليوم الى مساندة عبير موسي و الحزب الدستوري الحرّ - فقط لأنهما أعلى صوتا ضدّ النهضة يقوم بذلك- ويا للمفارقة، هو نفسه الذي يشدّد نقد 'شعبوية' قيس سعيّد و 'وسطية' حركة الشعب والتيار الديمقراطي و'يسراوية' تنظيمات اليسار و'نقابوية ' الاتحاد العام التونسي للشغل،الخ. ،في حين أن هؤلاء جميعا ، رغم أخطائهم التي يجب نقدها، يساندون الثورة السياسية ويطالبون بجمهورية اجتماعية ديمقراطية وينقدون تحالف النهضة-قلب تونس-ائتلاف الكرامة ، بطريقتهم طبعا.

انّ هذا الحداثي -الذي يضغط على الحداثيين من اليمين و الوسط و اليسار لمساندة عبير موسي وحزبها- لا يؤمن في قرارة نفسه لا بالثورة السياسية التي تحققت ولا بالديمقراطية السياسية كأسلوب نضال ضد الحركة الاسلامية وضد غيرها ، بل هو في الحقيقة يناصر 'الثورة المضادة' ضدّ 'الثورة المحافظة' لا أكثر و لا اقلّ. واضافة الى ذلك، نراه يحاول اقناع 'قلب تونس' 'الحداثوي' الفاسد ليلتحق بالحزب الدستوري الحرّ داخلا بذلك في رهان من يكسب الفساد الى صفّه :الثورة المحافظة الاسلاموية أم الثورة المضادّة الدستورية ؟

بل أكثر من ذلك، انّه يدعو قيس سعيد و حركة الشعب و التيار الديمقراطي و اليسار و اتحاد الشغل ...الى الالتحاق بعبير موسي وحزبها ضدّ النهضة معبّرا بذلك عن موقف سياسي أقل ما يقال عنه أنّه دعوة " المستجير من الرمضاء بالنّار " او دعوة المفاضلة بين ' الكوليرا والطاعون'.

خاتمة :

هل يعني ذلك أنّه يجب على الحداثي المؤمن بالثورة و الديقراطية و الحداثة الجديدة ( الوطنية الاجتماعية -الديمقراطية ) أن يجعل من الدستوري الحرّ عدوّه الأساسي اليوم كما يدعو الى ذلك الاسلاميّون باسم 'الفاشية' -الصفة التي يطلقونها على غيرهم الآن حتى يخففوا من اطلاقها التاريخي عليهم - و أنّه لا يمكن فعل اي شيء معه و مع غيره ؟

لا، مطلقا، يجب التركيز دائما على من يحكم في السياسة اذا كان الحكم ظالما، وهو حال البلاد الان ، ولكن مع عدم مع التسامح مع المعارضة السيئة - خاصة عندما تكون قويّة وقريبة من الحكم - التي ان حكمت غدا ستصبح خطرا مباشرا من نوع آخر على المكتسبات . يجب مقاومة المرض القاتل و الدواء القاتل في نفس الوقت. يجب مقاومة الفيروس القاتل ومضاد الفيروسات القاتل في نفس الوقت ، مع الانتباه الى حسن ادارة هذه المقاومة . ولهذا ، على القوى السياسية المؤمنة بالثورة و الديمقراطية و الحداثة الجديدة أن تعامل قطبي الاستقطاب الاسلامي -الدستوري معاملة جديدة تفرضها قواعد اللعبة الديمقراطية من ناحية و يحتّمها هدف التمايز عن الثورة المضادة و الثورة المحافظة في نفس الوقت وذلك كما يلي :

الدخول في كل معركة حداثية ضد ' الثورة المحافظة' حتى لو دخلها الدستوري الحرّ مع الذهاب أعمق وأبعد منه، و الدخول في كل معركة ديمقراطية ضد 'الثورة المضادة' حتى لو دخلتها النهضة مع الذهاب أعمق وابعد منها ، مع التمايز السياسي و الاستقلال التنظيمي عنهما معا ونقدهما في نفس الوقت و السعي دائما الى توحيد صفوف الخيار الثالث : الخيار الوطني الاجتماعي الديمقراطي الذي سيتولى المحافظة على المكتسبات الحداثية و الديمقراطية معا وتطويرها ضد كلّ من الثورة المحافظة و الثورة المضادّة في نفس الوقت .

و انّ عدم الوعي بهذا و عدم ممارسته بذكاء و مرونة يشكل خطرا على آفاق الثورة و الدولة و المجتمع وهو ، بقطع النظر عن النوايا الحسنة، قد يعني موضوعيا التحوّل الى عجلة احتياط خامسة أو الى طابور خامس لهذا أو لذاك على حساب الوطن و الشعب .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات