السياسة الخارجية التونسية بين ثقافة الاستعمال والبناء المؤسسي

لا شك بأن الديبلوماسية التونسية مرت بمراحل فراغ وبحث عن الذات بين ما هو ثابت في السياسة الخارجية وما هو متغير مرتبط أساس بالأشخاص المشرفين على توجيه تلك السياسة حسب مصالح محددة.

اليوم وبعد مرور عشر سنوات على ثورة "الحرية والكرامة" أصبح يتعين وجوبا الارتقاء بالدبلوماسية التونسية إلى مستوى التطلعات المرجوة وانتهاج مفهوم طالما نادينا به وهو تعدد المبادرات الدولية الهادفة والترويج الأمثل بكل مصداقية للنجاحات الوطنية المتميزة.

إن هذا العمل من شانه أن يُسهم في تعزيز الاعتراف الدولي والشامل بمكاسب الثورة وخاصة بنجاح مسار الانتقال الديمقراطي وهو ما يمكن أن يرفع من رصيد تونس في هذا المجال دوليا وبالتالي يدعم حقوق الناس اضافة الى جهود الاستثمار.

كل هذا فضلا عن مزيد من التعريف بالخيارات والمكاسب الوطنية على المستوى الإقليمي والدولي والعمل على المزيد من إشاعة القيم الكونية التي قامت من اجلها الثورة التونسية ونصرة قضايا الحق والعدل خدمة للسلم والأمن والاستقرار والتنمية المستدامة.

إن الديبلوماسية التونسية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى لاعتماد نهج الاستشراف والواقعية والقراءة الصحيحة لتطور الأحداث التي يعيشها العالم لاسيما عقب المتغيرات المرتبطة بتشتت القرار العربي واندثار الجامعة العربية وتزايد وتيرة التطبيع المهين للعديد من الانظمة في المنطقة.

انه ومع تزايد الشعبوية والافكار الفوضوية وما أصبح يروج عن تونس في الخارج أصبح من المستعجل والضروري انتهاج سياسة خارجية عقلانية متوازنة ومنسجمة، سمتها التفتح والانفتاح ونظامها الاعتدال والاتزان بعيدا عن سياسة الموازين المختلفة والمعاملة الانتقائية والتبعية، وقيمها التسامح والتضامن بين الدول والشعوب لإضفاء مزيدا من العدل والديمقراطية في العلاقات الدولية وتعميم الأمن والاستقرار لفائدة الإنسانية قاطبة.

ولعله من المفيد التذكير ببعض المحاور الرئيسية التي يجب أن تعمل عليها الديبلوماسية التونسية خلال الفترة القادمة - الترويج لثقافة حق الشعوب في تحقيق الديمقراطية والكرامة، والمساهمة في صياغة عالم جديد قوامه الحرية وحقوق الإنسان ومساندة قضايا الحق والعدل وفي مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني الباسل وحقه المشروع في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على أرضه وعاصمتها القدس الشريف، والاضطلاع بمهمة ترجمة مطلب حرية الشعوب إلى واقع عملي في المحافل الإقليمية والدولية على اختلافها.


- تفعيل دبلوماسية التنمية بحيث تتحول الرئاسة ووزارة الشؤون الخارجية وبعثاتها في الخارج إلى خلايا نشطة تستلهم أبرز التجارب الناجحة في التنمية في العالم وتروج لتونس كوجهة مختارة ومميزة للاستثمار والشراكة الاقتصادية والسياحة وجلب الاستثمارات الخارجية وفتح أسواق التصدير أمام المنتجات التونسية وتنويعها إضافة إلى إعداد خطة تحرك شاملة ومتكاملة من شانها أن تدعم تموقع تونس على الخارطة الاقتصادية العالمية.

- مواصلة الجهود الديبلوماسية المتزنة لاسترجاع الأموال المنهوبة وتكثيف الجهود من أجل مواكبة التعاون القضائي في الملف وإعادة المطلوبين من النظام السابق إلى تونس لمحاكمتهم وارجاع ممتلكات الشعب وهذه المهمة تتطلب تنسيقا وتعاونا بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، من ناحية، ومع البلدان الشقيقة والصديقة من ناحية أخرى. هذا بالإضافة إلى مواصلة الجهود من أجل تحويل الديون إلى استثمارات ومصارحة الشعب حول ملفات الاموال المهربة وأسباب تعطل اجراءات ارجاعها للبلاد.

- تحرير المبادرة والعمل على أن تمارس السياسة الخارجية التونسية دورها بمسؤولية ووعي وتتجاوز ما انتابها من فتور وسلبية والتأكيد على ضرورة استثمار كل الفرص السانحة لإحلال الحوار والتفاهم بدل التصادم والمجابهة، والعمل على تكريس قيم التسامح والاعتدال ونبذ كافة أشكال الانغلاق والتطرف. وهي سياسة لا تخفي حرصها على الإسهام في تعزيز السلم والأمن والاستقرار في العالم والتأسيس باستمرار للتقارب والتعايش وتكريس الحوار، والوفاق الدولي.

- مواصلة اعتماد سياسة خارجية استشرافية قادرة على التفاعل ومواكبة التحولات العالمية الراهنة ومعاضدة كافة الجهود الرامية إلى تركيز نظام عالمي أكثر عدالة، لإضفاء المزيد من النجاعة على مجلس الأمن الدولي في أداء مهامه و إصلاح منظومة وهياكل الأمم المتحدة، والمطالبة بتأمين حق الدول النامية في أن تكون شريكاً في تحديد ملامح النظام العالمي الناشئ و العمل باتجاه تصحيح الاختلافات القائمة في توازنات العلاقات الدولية وتكريس مبدأ التكامل في المصالح والشراكة المتضامنة وتركيز الجهد الدولي على معالجة القضايا والمشكلات ذات التأثير على استتباب السلم والأمن والاستقرار وتحقيق التنمية في العالم.

- تفعيل الدبلوماسية البرلمانية والدبلوماسية الجمعياتية والدبلوماسية الاقتصادية والدبلوماسية الثقافية والأطر المتاحة على صعيد التعاون الثنائي اللامركزي وغيرها من الآليات الكفيلة بتحصين مناعة تونس والذود عن مصالحها أسوة بما تقوم به العديد من الدول المتقدمة في هذا الشأن من خلال التشريك الفاعل لفعاليات المجتمع المدني من برلمانيين ورجال أعمال ومنظمات غير حكومية وجمعيات وأرباب الفكر والثقافة في تنفيذ سياسة تونس الخارجية.

- إشراك الجاليات التونسية بالخارج في عملية البناء الديمقراطي خاصة مع تأكد جدوى العديد من المبادرات الرائدة التي عملت على جلب الاستثمارات والدعم للجهات المحرومة في البلاد كما أن السفارات أصبحت مفتوحة لعموم التونسيين ولم تعد أوكارا للتجسس وإرهاب الناس بل خلايا تعمل لجلب المصلحة للبلد عامة. كما أنه لابد من العناية والاهتمام بأبناء تونس في الخارج والدفاع عن مصالحهم وحمايتهم من استهداف والاستعمال في مخططات مشبوهة وغير إنسانية.

ولتحقيق هذه الاهداف السامية أعتقد بأنه من المهم طمأنة الشعب على عدم الدخول في لعبة المحاور الإقليمية أو الدولية والاجندات المدمرة لأي تغيير ديمقراطي وحر وهذا من أجل الحفاظ على استقلالية القرار الوطني وعدم التبعية لأي كان وخاصة في الملفات الحساسة مثل الوضع الامني في منطقة الساحل والصحراء أو الملفات العربية المختلفة واساسا ليبيا والبدء في الانخراط في صياغة علاقات إقليمية ودولية أكثر توازنا وشراكات جديدة ومثمرة مع جوارنا القريب والبعيد. وفتح دوائر جديدة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا التي أضحت تشكل قطب في النشاط الاقتصادي والمالي العالمي. هذا فضلا عن السعي لترسيخ مفهوم التفاهم والتفاعل الايجابي بين الأديان والحضارات والثقافات وتكريس قيم الاعتدال والتسامح والتضامن بين الأفراد والمجموعات والشعوب بعيدا عن مظاهر العنف والتطرف والغلو التي تؤدي الى الحقد والبغضاء وصولاً إلى إرساء السلام والأمن والاستقرار.


أنور الغربي حقوقي وسياسي مستشار سابق لدى رئيس الجمهورية

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات