في عَشر سنين

Photo

قبل عشر سنين أُلقيَ عودُ ثقابٍ في كومة هشيم قديم فاشتعلت نارٌ اهتزّت لها عروش وتداعت نُظُمٌ حسبت أنّ قمعها أخلدها.. شابّ "نكرة" أضرم في جسده النار من القهر وظلّت النار في جسد الفتى تضطرم وتتّسع دائرتها في النواحي مراعية فارق توقيت حسم أمر الواقفين على الطريق ينتظرون الاشتراك في السباق لتحقيق الأشواق... شعوب عربية احتلّ حكّامُها منازل الآلهة، قرأت أنّ السياسة لا تكون إلّا لمتغلّب، اكتشفت قدرتها على الحركة فنفضت عنها غبار الدهور وزحفت بكلّ لغات الدنيا،

" الشعب يريد"... ولمّا اعتنق الشعب إرادته صار المحكوم قاهرا والحاكم مقهورا…

جاءت الأخبار بأنّ شابّا من سيدي بوزيد الباسلة أحرق "روحه" وما احترق منه غيرُ الجسد.. فشبّت ناره المقدَّسة في كومة القشّ الكبرى ليكتشف الناس أنّ الواقف المرعب فيهم إن هو إلّا كائن متداعٍ وأنّ منسأته مصنوعة من القشّ.. يكفي لكسرها عودُ ثقابٍ وحيدٌ.. وأنّ الشعب لا يحتاج إلى أكثر من بخور الدم المقهور ليكسر السيف المسلَّط على الرقاب ويبصر بعد طويل عمًى…

احترق جسد محمّد البوعزيزي وأنجز بموته دورا عجزت عن إنجازه أجيال متعاقبة أفنت أعمارها بين القراءة والأحلام والمنافي والسجون.. ولكنّها ظلّت تدفع بابا ثقيلا مستحيلا ولم تنتبه إلى أنّ باب سجنها يكفي أن يُجذبَ لتندلع الحرية ويعود الحقّ إلى أهله…

من عشر سنين كشف جسد البوعزيزي، لمّا أضاء، عوراتِ حاكم كان يكوّم قوّته من ضعف المحكومين.. وعوراتِ نظام استعمل نخبا باعت شرفها لتكون أداة تُسحق مناعة الناس بها…

هرب رأس النظام فتداعت له سائر أعضائه بالهلع والحُمّى... واكتشف الشعب أنّه كان يمرّ بفعل الإرادة ولا يراه حتّى أضاءه الجسد المضطرم.. وكان له عليه دليلا…

قبل عشر سنين زُحزحت صخرة كانت بالوادي لا يزاحمها ماء حتّى ظنّ الجميع، كلَّ الظنّ، أن لا تلاقيَ بين الوادي والماء وأنّ الحياة به مستحيلة…

بعد عشر سنين لا يزال بخور الجسد المقدَّس يعبق رغم كواتم الصوت العائدة.. ولا تزال شجرة الحياة تصارع الزواحف والحيّات التي راهنت على أنّ النسيان خادمٌ لها حتّى ظنّت بعضُ دوابّ الدكتاتورية الناجية بفضل الثورة أنّه يمكنها أن تتسلّل من جدران حلمنا وعجزنا واختلافنا لتطأنا بأظلافها…

بعد عشر سنين راكمنا كثيرا من الغثاء الذي جاء به وادي الثورة المتلاطم.. واكتشفنا أنّ خلف الصخرة المتداعية صخورا وأحجارا كثيرة لا تزال تمنع المولود من أن يسير على قدميه ويتكلّم وتشتغل جميع حواسه لتشهد على سلامته من الأعطاب.. كثير من وظائف البدن العضوية لا تزال متصلّبة لأنّ القوابل اختلفن في شأن الوليد بدءا من جنسه وتسميته ولم يتّفقن على حسن رعايته وتيسير أسباب الحياة له.. وظللن في تنازع يوشك يخنق المولود…

مع اختلاف القوابل على الوليد أمنت الفيروسات على نفسها وبدأت هجومها لتهديد مناعته منتهزة تراكم الأوجاع في جسد الوطن…

فهل يأمن جسد يشتاق الشفاء من فيروسات لا تزال آثارها عليه باطنًا وظاهرًا ؟

الديمقراطية، على ما يبدو من رخاوتها، عنيدة لا تسلم أمرها للعائدين من جحور الفزع.. المتسلّلين من شقوق العجز والفراغ...

قد يتهاوى ديمقراطيو القشور فتتعرّى الثغرات التي كانوا يقفون عليها ولكنّ شعبا عرف معنى الحرية لن يسلم قياده للمغامرين والمستعجلين وعشّاق الانقلابات…

التجويع سلاح تستعمله العصابات السالبة لمساومة الناس على حريتهم.. ولكنّ العصابة تظلّ عصابة.. الثورة عقلٌ.. والعقل يمنع نفسه من معاودة جحور جرّب أذى لدغِها…

سيقال ماذا جنينا من ثورة انتهت بنا إلى فاشية قميئة وشعبوية كالحة وأحزاب لا قدرة لها وجوع يتّسع وأحلام تتبخّر؟

الديمقراطية هي الطريق إلى الكرامة الممنوعة.. ومفتاحها الوحيد رغم استيهامات الذين عجزوا عن إقناع الناس بأنفسهم فعاد بهم الحنين إلى دكتاتورية قد تلقي عليهم بفُتاتها وتملأ بطونهم ولكنّها ستلقي بهم في أودية النسيان كما يفعل كلّ دكتاتور بالخيل والبغال والحمير التي ركبها ليجهز على الحرية بها…

الثورة التونسية اقتحمت بنا حداثة سياسية كنا نراها بعيدة وجعلت من المحكوم مواطنا يختار حكّامه ويختبرهم.. يرفعهم متى رضي عنهم ويضعهم متى عجزوا عن مرضاته... وكلّ الذي يجري عليها إنّما هو من لزومها…

ولستُ أرى عاقلا يظنّ أنّ طريق الإنجاز سهلة... وهذا الذي نرى من الدوران الفارغ المانع من الحركة إنّما يرجى منه النكوص على الأعقاب…

فكيف تأمل الأعقاب في ليّ عنق التاريخ وتطمع في عودة ماكينة الدكتاتورية عبر أقبح أشكالها ويرتاب عشّاق الحرية في أنّ القادم، مهما كانت العراقيل، أفضل؟

بعد عشر سنين نقول: الثورة أجمل رغم الفاشية والشعبويّة والانقلابيّة…

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات