نصّ أدبيّ خالٍ من السياسة…

Photo

سيكون وباء كورونا قرينة تاريخية مناسبة للحديث، في المستقبل، عن السياسة في برّ تونس وعن حركة سياسيّة كانت بها تُدعى حركة النهضة تدعو نفسها حزبا سياسيا ذا مرجعيّة إسلاميّة…

وسيكون مناسبا أن يقال إنّ وباء كوفيد 19 الذي حلّ بالعالم مع نهاية سنة 2019 لميلاد المسيح هذا كان إذا أصاب الإنسان أشرف به على الهلاك، هذا إذا كان بدنه سليما معافًى، أمّا إذا كان البدنُ محدود المناعة فَقَدَ صاحبُه ما بقي عليه منها وكان، في الغالب، من الهالكين.. وقد هلك من الذين أصيبوا به خلقٌ كثيرٌ يُعَدّون في الأرض بالملايين.

كان من عادة المجتمعات البشرية، إذا هاجمها خطر ما، أن تنسى أسباب افتراقها وأن تفتّش في عوامل اتّحادها لردّ الخطر عنها، حتّى إذا ارتدّ عنهم الخطر عاداوا إلى ما كانوا فيه إذا كان للعودة إليه ما يبرّرها، غير أنّ أهل تونس، جميعَ أهلِ تونس من المشتغلين بالسياسة والتجارة والطبّ، وقتها كانوا مع الوباء على بعضهم البعض.. كانت ساحة الوباء تتّسع وكانت مساحة الاجتماع تضيق.. تضيق أنفاس الناس بالفيروس ويضيق بعضهم ببعض.. ويتصدّع الجدار القائم ويرتجف السقف الذي يظلّهم.

المجتمع التونسي لم يكتف وقتها بما كانت تفعله به الجائحة بل كان بعضه يسحق بعضا.. كأنّ الناس كانوا ينتظرون كارثة ليستعين بها بعضهم على بعض في توحّش عجيب غريب:

الأصحّاء يسحقون المرضى والأغنياء يدوسون الفقراء، التاجر ينزف جيب المواطن باحتكار للسلع الحاجيّة وبغشّ في المبيع وبرفع للأسعار.. والطبيب ينزف جيب المريض دون أن يقدّم إليه علاجا يعود عليه بالنفع.. أمّا السياسيُّ فينزف عقل المواطن بخرافات تُلهيه ولا تعنيه وبهراء يُعييه ولا يُغنيه وبصراعات تقطع عنه الأمل…

كانوا يتحجّجون بندرة السلع ويتذرّعون بغلاء الأدوية ويشتكون استحالة التصنيع وصعوبة الاستيراد.. وكانوا يُضرمون في ضروريات الحياة نيرانهم.. وكان عليك، إذا كنت من المرضى القادرين، أن تدفع ضمان موتك للمصحّة قبل دخولها نقدًا عاجلًا لا صكًّا آجلًا حتّى لا تُضطَرّ إلى رهن جثّتك في انتظار أن يسدّد أهلك ثمنها حتّى تتحقّ لهم معالجتُها بدفنها.. أمّا إذا كنت غير مستطيع فانتظر على قارعة الطريق أن يمرّ بك ملَكُ الموت فيرحمك بنقلتك وكَفٍّ العناء عنك.. وكان المرضى يتكاثرون وكانت المقابر تضيق بالوافدين.. وكان الموت يُحكم سطوته وينشر سلطانه لا يوقفه سلطان…

حتّى الموت فقد غرابته وذهب ما كان من فاجعته.. وبعد أن كان مناسبة يجتمع فيها الناس للتعازي وتداوُلِ الاعتبار والرجوع إلى الله وإلى بعضهم البعض صار مناسبة يفرّ فيها المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي تؤويه... وتحوّل المجال إلى دورة عبثيّة لا أحد يعرف له فيها وجهة... غرقت الأرض في الأوجاع واحتجبت عنها السماء.

لم يكتف الفيروس الشرس بإصابة الأبدان بعلّته بل تسلّل إلى أكبر حزب سياسي في البلاد فأصابه بأسرع ممّا يصيب به بدنا فقيرَ المناعة.. ففي غمرة صراع الكلّ ضدّ الوباء نفرت طائفة من الحزب لترغم رئيسه على إمضاء تعهّدين شفويّ وكتابيّ بأن يحترم القانون، وقانون الحزب يقول إنّه ليس لرئيس الحزب الحقُّ في أكثر من عهدتين والرجلُ الذي كان اسمه راشد الغنوشي قد أتمّ عهدتيه في منصب الرئاسة…

تلك الطائفة النافرة كانت تخشى أن يعتمد الرئيس وحاشيته قاعدة كانت تقول إنّ (المؤتمر سيّد نفسه) ليدفع باتّجاه التمديد لنفسه.. كان هؤلاء يدافعون عن القانون وهم يعلمون بأنّ القانون نصّ بشريّ نسبيّ يسع الناسَ تغييرُه استجابة لمصالحهم وأهوائهم، وكانوا يدركون أنّ تغيير القانون، بدوره، من القانون.. ذلك أنّ القوانين ليست أجهزة سطّرها القدَر ومنع البشرَ من الاقتراب منها.. جميل أن تحترم القانون وتحثّ على احترامه ولكن لا ينبغي لك أن تقطع الطريق على غيرك إذا رأى خلاف ما ترى.. وقتها سيكون القانون سيفا يسلّطه الغالب على المغلوب والكثرة على القلّة والصاخبون على الصامتين.. غير أنّ هؤلاء هم الذين كانوا يشتكون من مغالبة رئيسهم إياهم لأنّه كان يجمع بين يديه جميع أسباب القوّة بينما كانوا هم عُزّلًا إلّا من تمسُّكهم بقانون يحتمون به من رئيسهم الذي لا يرون لهم عملا إلّا عند اختفائه ولا لهم قدرة عليه إلّا بقتله…

ولأنّ هؤلاء يعلمون كلّ ذلك فقد حصّنوا ذواتهم من الفيروس الفاتك وألقوا إليه بحزبهم الذي ذهبت أعمارهم فيه وسُكبت أحلامهم في بنائه وبذلوا مُهجهم في صيانته حتّى لقد صارت أخبار حزبهم ومعاركهم فيه أظهر من أخبار الفيروس وأولى من آثار غزواته.. وانتشى بعضهم بتمزيق بعض.

حزب النهضة ذاك كان هو الحزب الأقوى في البلاد لأسباب عديدة منها خصومه الذين كانوا لا يتوقّفون عن محاربته بشتّى الوسائل وكانوا كلما اشتدّوا في محاربته شدّوا لُحمته.. فكان كلّما عصفت به أزمة أخرجوه منها بكيدهم له حتّى لقد أوشك بسبب تلاحم أجزائه على الإفلات من مصائر أحزاب أخرى على يمينه ويساره تصدّعت مبانيها وضاعت دماء منتسبيها بين رؤوس قياداتها...

ولكنّ "الديمقراطية" دخلت بينهم فكسرت الوعاء وأهرقت ما كان مجتمعا به من الماء.. عرائض وعرائض مضادّة.. تصريحات وتصريحات نقيضة.. حجج وحجج مدافعة.. أقوال وردود.. وقد جعل الإعلام، وكان الإعلام كاسدا، من كلّ ذلك مادّةً مجانيّة له فصاروا يتداعون إلى منابر السمع والبصر يمارسون ديمقراطية لهم لم يروها ممكنة إلّا بتخريب المسكن الذي كان يجمعهم بينما كانت دول وأحزاب وجماعات تنتظر انجلاء الغبار عن أحد الفسطاطين المتنازعين ليبادروه بما ملكت أيديهم وليُجهزوا عليه ويخفوا أثره…

كان بيتا لبعضهم هدموه وسكنًا لبعضهم خرّبوه وكتابا لبعضهم مزّقوه وحلما لبعضهم سفّهوه وفكرة لبعضهم فنّدوها.. وقد صحّ فيهم ما قاله من قبل أديب عربيّ معروف يدعى أحمد أمين في فرقة دينيّة قديمة.. قال ذلك الأديب: " ومن أشدّ مصائب المسلمين موت المعتزلة وعلى أنفسهم جنوا".

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات