المخلوع في حضرة الحساب…

Photo

لفظ الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي آخر أنفاسه.. فتح كتابه الأخرويّ بعد أن دبّت إليه شيخوخة كان يخفيها في عرق التونسيين يتّخذ منه مرهما لتسوية أعطاب بدن بدأ في التهاوي.. سقطت أسنانه وهو يطالع آخر صفحات كتابه الدنيويّ في منفاه السعوديّ.. كان يصبغ شعره ويرتّب طاقم أسنانه ويعدّل هيأته بما في جيوب التونسيين.. ولمّا تُرك لشأنه بعد طرده فقد الطريق إلى طاقم أسنانه فصار أدرد، والدَّرَدُ ذَهَابُ الأَسنان…

ولا شكّ أنّ ليلى كانت في سنواته الأخيرة ترضعه من حليب المراعي السعودي تشتريه بما بقي في "حصّالتها" من أموال التونسيين وبما احتفظت به من آخر راتب للدكتورة ألفة يوسف عن آخر محاضرة ألقتها بين يدي هيلمانها.. كان الراتب المتبقّي في حقيبة يدها لتهبه لها ولكنّ قبضات الشعب المقهور سبقت الدكتورة ففرّت صاحبة الحقيبة بآخر راتب للتابعة.. وبقيت الدكتورة عاطلًا تندب حظّا وتربّي أملا.. وها قد تدخّل ملك الموت في آخر المطاف ليطويَ صفحته طيًّا نهائيا لا استئناف فيه.. ويضع عن الدكتورة جراب الأمل ويخلع عليها يُتمَ الأبد…

لقد مات أمل ظلّت ألفة يوسف تربّيه طمعا في أن تستأنف، يوما ما سيرتها السابقة بين يدي مولاتها... ومات أمل ظلّ يدّخر لأجله الدكتور حمّادي بن جاء بالله النسخة المتبقية له من كتاب الثورة الهادئة ممهورة بإمضاء سيّده الرئيس وقد خبّأها منذ قامت الثورة في زاوية لوالده كان يعالج بها زائراته وزائريه.. ويتعهّد بالزيارة مقالته بها.. طمعا في أن يعود إليه الطاعم الكاسي…

لعلّ بن علي، الآن، يتهجّى الحرف الأوّل من صفحة كتاب الآخرة.. لا أظنّه يفهم اللغة أو يحسن القراءة وقد كان دونهما في الحياة الدنيا.. سيمرّ به طيف خيال ولا يلتفت إليه.. يطلب المخلوع نجدة الطيف العابر.. يبحث عن نظّاراته ليتعرّف إليه فلا يجدها.. يغيم بصره.. يشعر بوخزة في صدغه الأيمن يحتدّ منها بصر عينه اليمنى.. يوشك أن يقع من الاختلال الحاصل بين عينيه.. يُوخز صدغه الأيسر فينطلق بصر عينه اليسرى..

يبحث عن الطيف وقد احتدّ بصره فلا يجده.. ولكنّه يرى أمامه شاشة تدنو من بصره.. تقترب حتّى يرى تفاصيل ما بها.. شابّ في عمر الثلاثين أو أقلّ يبتسم.. يجد المخلوع ما يشبه الغصّة في حلقه.. يبحث عن ريق يبلعه فلا يجد.. تدنو منه قطرة ماء.. يهفو إليها فتفرّ.. تخترق الشاشة وتقع على فم الفتى الباسم كأنها تقبّله.. يزداد الفتى ابتساما كمن فاضت به نشوة نُشرت على ملامحه... المخلوع لا ينتبه ولكن الطيف يبتسم.. يتشكّل حول الصورة اسم كمال المطماطي بحروف يراها المخلوع ويهجّيها..يذكر لحظتها هاتفا جاءه من وزير داخليته يستنجد به..

- سيّدي لقد قتل الأعوان شابّا في منطقة قابس فماذا نصنع؟

يشعر كأنّ شيئا فرك ذاكرته.. يتذكرّ أنه قد أذن بدفن الشاب بعد قتله بأيّام في خرسانة جسر دشّنه بعد مدّة ولم يعبره مرّة واحدة طوال حكمه مخافة أن يقع بموكبه... يفرك المخلوع عينيه.. يقوم أمامه جسر.. تتحلّل موادّه.. تعود إلى هيئاتها الأولى قبل التصنيع.. يَنْسِل من بين الأنقاض فتى في العشرينات من عمره.. يرى المخلوع بأمّ عينه كيف تُكسى العظام لحما.. يقف الفتى قبالته.. يهمّ به.. ولكنّ نهرا يحول بينهما.. دم ودموع وجماجم..

يغرق المخلوع في عرقه.. يشلّه الهلع وتغمره مشاعر لم يجرّبها.. يلتفت حوله فلا يرى شيئا ولا أحدا.. يقف وحيدا ولا علامة تهديه وجهة يقصدها.. يقضي ليلته الأولى واقفا يترقّب ومن حوله أصوات تضجّ.. في انتظار حساب لا يدري له موعدا…

تلك الليلة الأولى.. والحصّة الأولى في رحلة المخلوع الأخرويّة…

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات