قيس سعيد اللُّغز

Photo

يقارن تونسيون كثيرا بين قيس سعيد، رئيسهم المنتخب، وبين العسكري المصري الانقلابي الذي يهدم بيوت مصر على رؤوس ساكنيها، فيحمدون الله على أنهم يحتفظون بعد بحق نقد رئيسهم وممارسة السخرية الفنية من طريقة كلامه ومشيته وسياساته.

عند الوصول إلى سياساته يتجهم الحديث عن الرئيس، ويطرح الكثيرون السؤال: من أين جاء وأين يتجه بنا ربان المركب التونسي؟ ويستخلص كثيرون أن الرجل بلا بوصلة، وأن المركب متروك لحرية الأمواج. ومع عودة وباء كورونا في موجته الثانية الكاسحة، وقد تعرت قدرات الدولة الصحية وانكشف عجزها، يشعر الناس بأن الرئيس غير معني بهم، وأن معاركه الخاصة ليست معركتهم الحيوية. وتتضح فجوة مرعبة ويرتجف كثيرون هلعا.

لقد سيق التونسيون إلى قيس سعيد

لم يستفق التونسيون من الذهول من نتيجة الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التي سقط فيها كل السياسيين المحترفين، ومر إلى الدور الثاني شخصان بلا ماض ولا مشروع واضح، حتى وجدوا أنفسهم يحتمون بقيس سعيد من نبيل القروي المتهرب الضريبي والابن البار لابن علي (كما افتخر دوما). لم تكن فترة مناسبة وكافية لطرح الأسئلة الجوهرية عن الرجل، فقد رمي في ساحة النقاش ملف خطير: نبيل القروي ينسق مع الصهاينة. فقد ظهر بن مناشي وأثبت الخيانة، في ذات اللحظة سؤل سعيد عن مسألة التطبيع مع الكيان فقال قولته العظيمة التي جلبت له نصف شعبيته: "التطبيع خيانة عظمى".

والتونسيون الذين كانوا يتطوعون في حروب فلسطين منذ العام 48 وجدوا رئيسهم العروبي حامل همّ القضية، فكانت قرابة ثلاثة ملايين صوت، كأنه استفتاء شعبي.

من وضع التونسيين في هذه القناة الضيقة ليحملهم تيارها؟ إنها جهة تعرف مزاجهم الفطري أو العفوي الذي لا يجادل في فلسطين وقد سقتهم مما يرغبون. وقد طاوع سعيد اللعبة فكان أداتها. هل كان واعيا بذلك فاغتنم، أم خطط مع من أخرجه من عدم السياسة ليكون رئيسا؟

يميل الذين خاب رجاؤهم قبل انقضاء الحول إلى أن الرجل متواطئ مع نفس الجهة التي سربت خطاب بن مناشي (حتى أن الصحفي الذي حاوره بالعربية لم يعرف أبدا). لقد صُنع لهم رئيس يتكلم ما يريدون سماعه، ولكنه يفعل ما يود صانعوه أن يفعل. وتؤكد ذلك السياسات التي اتبعها الرجل بعد فوزه، بدءا من دعوة العسكري المصري إلى تونس، وصولا إلى رفضه إدانة التطبيع في ما يسمى الجامعة العربية، مرورا بتقبيل كتفي الرئيس الفرنسي قبلة إقرار بالجميل والولاء.

ومن سوء حظه أو من حسن حظ التونسيين الملتزمين بالحق الفلسطيني أن الزمن لم يمهله كثيرا، فقد تواترت حالات التطبيع الرسمي العربي فاتخذ مواقف تثبت ميله أو عدم رفضه لسياسات التطبيع العربية. ولا نستغرب أن تبدر منه سياسات مماثلة إذا استقر له الوضع السياسي في الأشهر القادمة. تتضح صورة الرئيس كل يوم، ويقول التونسيون أو أغلبهم الآن: هذا الرجل ليس منا.

نقّاد الرئيس أصناف

نعم الموقف من الرئيس يستند إلى خلفيات سياسية وفكرية وعاطفية كثيرة.

أما العاطفية فيجسدها الموقف الشعبي العفوي الذي جاءت به جملة الرئيس حول الخيانة العظمى، والذي تربي على حب فلسطين والدفاع عنها ولم يجادل فيها أبدا. هؤلاء ينفضون من جملة الملايين الثلاثة التي صوتت له، فهو عندهم مطبع يمارس الخيانة العظمى فيتغطى بخطاب قومي ويخونه. ولا يشفع له عندهم مظهره البسيط وسلوكه الشعبي الذي يتكشف عن مسرحية سمجة.

وأما الفكرية فيعبر عنها مثقفون لم يستسيغوا قراءة الرئيس للدستور بشكل منفرد وتأويله على هواه، خاصة لجهة توسيع نفوذه على حساب البرلمان والسلطة التنفيذية (الحكومة). فقد تقدم للحكم على قاعدة الدستور الموجود بسلطاته المحددة، لكنه مال إلى نوع من الرئاسوية المتسلطة التي تعادي بقية السلطات ولا تتعاون معها. ونتيجة ذلك، فإن مؤسسات الدولة تعيش توترا بينيّا خلقه الرئيس وعادى كل من لم يخضع له، وخاصة رئيس البرلمان. ويبدو أن عداءه سيشمل الحكومة الجديدة التي ما زالت تكتشف مكاتبها وتعيد ترتيب ملفاتها، هذا فضلا عن طبقة سياسية تتابع مواقف الرئيس خاصة في مجال السياسات الخارجية، وتجد أنه يهدم تراثا سياسيا ولا يؤسس لغيره.

وأما السياسية فتظهر خاصة في موقف حزب النهضة الذي صوت للرئيس وأعلن حسن نيته (نصف مليون صوت من ضمن الملايين الثلاثة) تجاهه، فلم يلق منه إلا الرفض والعداء، دون أن يكشف عن نقد سياسي واضح للحزب أو لأفكاره. فهو ليس من جماعة الاستئصال المعروفين الذين يخلطون عامدين بين عداء للدين وللتدين، ولم تعرف عنه مواقف فكرية معادية لمشروع الإسلام السياسي قبل الرئاسة وخلالها، كما كان موقف الباجي قائد السبسي، بما يجعل عداءه شخصيا كما يقرأ ذلك حزب النهضة (موجه أساسا لرئيس الحزب).

وهذا العداء الشخصي يقرأ كنزوة لا كموقف فكري أو سياسي، وهو ما يوسع قول الحزب فيه كرجل غير مؤهل للحكم، ويوسع هامش الحزب في إطلاق بالون خطاب سحب الثقة من الرئيس، وإن كان الدستور لا يسمح بذلك إلا بوجود محكمة دستورية.

نتيجة الخيبة العظمى

مشهد غامض، ومهمة غير واضحة، فلا هي مطابقة للدستور ولا هي قادرة على تجاوزه. أحداث صغيرة تؤول على جهل بالسياسات العامة المتبعة، خاصة في المجال الدبلوماسي. الرئيس يزيد في حيرة شعبه فكأنه يتحالف عليه مع كورونا والفقر والبطالة، فلا خطاب تطمين ولا شحذ عزائم ولا اتصال مباشرا بالناس إلا للتحريض على الحكومات والتشكيك في قدراتها باسم الشعب يريد، وهو الشعار الذي لم ينحته الرئيس، وإنما استولى عليه جهرة كأنه مال مات أصحابه.

أين يذهب الرجل ببلده وشعبه؟ نشك في أن له وجهة وبرنامجا، ونقرأ بداية انفضاض مفكري اليسار من حوله، وخاصة أساتذته وزملاءه في كلية الحقوق والعلوم السياسية، دليلا على خيبة كبيرة في مستويات عليا ذات علاقة بالقرار السياسي في الداخل والخارج. لكن علينا الانتظار حتى عودة البرلمان من عطلته ونرى إن كان سيتقدم بمبادرات تشريعية لنفصل على الأقل بين نواياه وبرنامجه الفعلي. إذ إننا منذ حملته الانتخابية حتى دورة الحول نسمع جملة واحدة على طبقة صوتية واحدة، كأنه تسجيل منسي.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات