ثقافة الديمقراطية، رؤى العالم والأنسنة في تونس: أبعد من مسألة المساواة في الميراث!

Photo

انّ ما يؤلمني قلبيا ويشغلني عقليا وأنا أفكّر في الانتقال الديمقراطي في تونس، اضافة الى ارتهان بعض النخب الى الخارج، هو الفقر الفكري الذي نحن عليه في تصوّرنا للديمقراطية. نخبنا التقليدية الكبرى لم تكن تؤمن بالديمقراطية الا اذا كانت على مقاسها الايديولوجي. وقد كانت مقاساتها كلّها شمولية دون استثناء. نعم دون استثناء الا بعض المناضلين الاشتراكيين الديمقراطيين والحقوقيين التونسيين الذين التفوا حول الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان.

كان الاسلاميون الى وقت قريب يرفضون الديمقراطية وينادون بالشورى. وكان الدستوريون يرفضونها ويمارسون التسلّط البوليسي على الجميع. وكان القوميون يرفضونها ويميلون الى حكم العسكر. وكان اليساريون يرفضونها ويعلنون صراحة تبنيهم لدكتاتورية البروليتاريا.

ووراء هذا كانت هنالك فكرة سعي كل رؤية للعالم أن تكون هي وحدها الأساس الفكري للسياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة في حين أن من تعريفات الديمقراطية كونها: تعدد وتعايش رؤى العالم في المجتمع والدولة.

لقد كانت هنالك شموليات 'ليبيرالية' وأخرى اسلامية وأخرى قومية وأخرى يسارية وكنا جميعا مشاريع تسلّط واستبداد الى أن جاء 14 جانفي 2011 ونحن جميعا أعداء مباشرين (الدستوريون الحاكمون) واستراتيجيين (الاسلاميون والقوميون واليساريون المعارضون) للديمقراطية بمعناها الأنسني.

بمعناها الأنسني، لا يمكن للديمقراطية الا أن تكون وطنية/قومية من ناحية وانسانية من ناحية ثانية. أي لا بدّ لها من الجمع بين الخصوصي والكوني في رؤية العالم بحيث توفق بين الانسني في كلّ من الخصوصية الثقافية وفي العمومية الكونية. الا أنّ 'الليبيراليين' واليساريين عندنا لم يكونوا يعبدون سوى رؤى العالم الغربية (الرأسمالية والاشتراكية) في حين ان الاسلاميين والقوميين لم يكونوا يعبدون سوى رؤى العالم الشرقية (القومية والدينية) ...وضعنا جميعا.

كان من المفروض أن يقتنص المثقفون والمناضلون المثقفون الفرصة التي أهدانا اياها الشباب المنتفض بسرعة للبحث عن "تسوية تاريخية" سياسية سريعة يتم بعدها التأسيس لما يمكن أن يسمى "تسوية ثقافة" ديمقراطية جديدة من قبل المفكرين والمثقفين حتى 'لا تأكل الثورة أبناءها' وحتى خصومها طالما كانت سلمية ونريدها أن تبقى كذلك بعدما رأينا بأم العين الخراب الحاصل من حولنا بسبب تحويل الانتفاضات الى حروب دولية/أهلية...ولكن!

اليوم، وعلى خلفية النقاش حول المساواة في الميراث من جديد، يتبين أننا لم نغادر المربّع الأوّل بدليل كون كل شيء يصوّر وفق ثنائية صراع الشريعة الالهية مع التشريع الوضعي بما يعني كون أغلب الليبيراليين واليساريين يميلون الى العلمانية المعادية للدين باسم القانون الوضعي وأغلب القوميين والاسلاميين يميلون الى الاسلام المعادي للعلمنة باسم القانون الالهي. وترى هؤلاء يتجنبون يساريا أو ليبيراليا يدعو الى أنسنة التديّن نفسه وأولئك يتجنبون قوميا أو اسلاميا يدعو الى أنسنة العلمنة بل وأنسنة الالحاد نفسه.

المؤلم أنّ النقاش في تونس لا علاقة له بعد مثلا لا بالمدارس الأنسنية الجديدة في الشمال ولا بالمدارس الأنسنية الديكولونيالية الجديدة في الجنوب، و التي تدعو الى تجاوز المركزية الثقافية المحافظة ورفض الكونية الثقافية المتسلطة و البحث عن تصور جديد أكواني (وليس كوني) يستفيد من الايجابي في مختلف رؤى العالم الموجودة في مختلف الثقافات كل حسب خصوصيته ولكن ضمن الثقافة الانسانية لتكوين مشروع تقدّمي أنسني فدرالي ضد رجعية الاورومركزية الاستعمارية وضدّ رجعية الأطراف المضادة المحافظة.

انّ هذا يتطلب عندنا مثلا رؤية تجديدية أنسنية للدّين الاسلامي تحديدا. رؤية يعترف فيها العلماني ليس فقط بإمكان بل بضرورة الاستفادة الأنسنية من التشريع الاسلامي بوصفه جزءا خاصّا كبيرا من ثقافة المجتمع العرفية والقانونية ، ويعترف فيها الاسلامي ليس فقط بإمكان بل بضرورة الاستفادة الأنسنية من التشريع العلماني بوصفه جزءا خاصّا (ولو صغيرا) من ثقافة المجتمع وجزءا عامّا كبيرا جدّا من ثقافة الانسانية العرفية و القانونية و ذلك قطعا مع الكونية الاستعمارية و كومبرادورها الثقافي المحلّي و مع الخصوصية المحافظة وفاتحيها الدوليين الجدد عسى يتحقق ذلك التأليف الثقافي الفدرالي بين ثقافات تعدّل من رؤاها للعالم أنسنيا بحيث لا تتحنط و لا تجتث وتبقى مفتوحة على المختلفين في الداخل و الخارج معا.

كيف نفعل هذا في تونس؟

عقليّا،

بداية وقبل كل شيء عندما نقتنع أن الديمقراطية التونسية تتطلب تعايش من يختلفون في رؤيتهم الفلسفية والدينية للعالم من كل التونسيين دون استثناء على قاعدة احترام الانسان وحقوقه وحرياته.

وثانيا،عندما يقوم مثقفو التخوم من كل الاتجاهات الفكرية الكبرى المذكورة أعلاه بدور كاسحات الجليد الايديولوجي القديم عساهم يفتحون طريقا جديدة للتونسيين.

وهذا ممكن ...نظريّا.

ولكن مع الأسف،

قلبيّا،

عندما أقرأ ما يكتب في تونس وأرى ما يفعل فيها وبها وعندما أقارن بوضع البلد الذي اعيش فيه في الهجرة أذكر أنطونيو غرامشي وحديثه عن ' تشاؤم العقل وتفاؤل الارادة' فلا أجد نفسي فيه وأحتمي باميل حبيبي 'المتشائل'...وهذا نفسه يكاد يكون عنادا ومكابرة حماية للنفس من القرف ومن اليأس.

يا مثقفي تونس و مناضليه المثقفين التّخوميين: تنادوا الى كلمة سواء بينكم و التقوا في وسط الطريق الديمقراطي والا فانّ الخراب آت لا محالة لأنّ أنصار 'الجهل المقدّس ' و 'الجهل الدنياوي' المسنودين من مافيات الداخل و الخارج لا يريدون لكم لا ديمقراطية و لا حتى دولة و لا مجتمعا أصلا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات