الثورات والتسويات التاريخية

Photo

الثورات الناجحة هي التي توفّق في العبور إلى الاستقرار وتأسيس الحريّة والمواطنة على قاعدة تسويات تاريخية كبرى لا تضيف إلى جراحات الاستبداد وأنظمة التنكيل الفاشي جراحات تسببها ثارات الثوار والرغبة في الانتقام. والقضاء على الخصم السياسي (وهو الانظمة وامتدادها المجتمعي بالنسبة إلى الثورة) ليس بالضرورة قضاءً على شروط أنتاجها مجدّدا.

وكانت نتائج البعيدة للثورات الجذرية أنظمة دكتاتتورية قد تكون أبشع من الأنظمة موضوع الثورة، ومنها ما كان دعوى تغيير علاقات الإنتاج الجوفاء. والتجارب التي انتهت بعد انتصار الثوار إلى تسويات تاريخية ومصالحات واسعة كانت الأقدر على إلإصلاح العميق والبناء الهادئ المتوازن والمتواصل.

فللاستبداد آثار مدمّرة على النسيج الاجتماعي تنضاف إليها ثارات الضحايا والمناصرون الجدد فيتمزّق النسيج الاجتماعي ويصعب بعدها البناء والعيش المشترك.

الهدف هو العبور بأقلّ الخسائر البشرية والمادية وبأكثر المكاسب السياسيّة: فتح مكة نموذجا.

فتح مكة كان منهجية نبوية ونموذج تاريخي في انتصار الفكرة مع سلامة النسيج الاجتماعي الذي سيكون بدوره موضوعا للتطوير والتغيير في شروط سلمية للاختيار الحر والمشاركة فيها دور أساسي.

نأمل أن يكون تحرير ترهونة، وهو مقدّمة لتحرير كل الشرق الليبي، عبر مقاربة اجتماعية سياسيّة تراعي التوازنات القبلية والمناطقية والجهوية. ويكفي ما خلفته الحرب الأهليّة من جراحات غائرة. فالعائلات تعرف بعضها، وتدرك أنّ ثارات الدم ليس سهلا جبرها.

وقد حدّثني أحد الأصدقاء أن الانقسام طال العائلات الواحدة والحي الواحد حتّى أنّه اجتمع في المقبرة الواحدة موكبا لقتيلين من المعسكرين، فكان تبادل التعازي.

في تونس، رغم أنّ الجديد لم يذهب إلى الانتقام وقبل بالعدالة الانتقالية (وهي مطلب القديم) في الشروط المعلومة، غير أنّ هذا القديم عمل بالتحالف مع بعض مكونات الجديد على إفساد مسار العدالة الانتقالية وحرفها عن هدفها وهو المصالحة التاريخية.

في بلادنا، خلّف الاستبداد جراحه العميقة في الوعي والنسيج الاجتماعي. إلاّ أنّ أثر التنازع الإيديولوجي والهووي والفئوي بعد الثورة على النسيج السياسي والاجتماعي يضاهي ما كان سيكون من جراح لو أن الجديد انتقم لنفسه.

ولم يَسمح الهوس الإيديولوجي بالتأسيس عندما توفرت أهمّ أسبابه ولا رضي بالتوافق عندما اتجه إليه طرفان من وسط القديم والجديد. وهو اليوم سبب في اتجاه الائتلاف الحكومي إلى عدم الانسجام والخلافات المبكّرة.

القديم في تجربتنا كان سبب الجراح القديمة والجديدة المسببة لما نشهده من تفكك مجتمعي وتشرذم سياسي، وهو اليوم يجمع شراذمه باسم الثورة والجوع والجمهورية الثالثة وفشل منظومة السياسة التقليديّة.

استعادة مسار العدالة الانتقالية وكشف ما حصل فيه من فساد وتشويه وإعادة تفعيله بهدف الوصول إلى التسوية التاريخية والمصالحة الشاملة قد تكون أخف الأضرار وأَلْأَم للجروح ولوحدة البلد.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات