بين الوباء الصحي والطاعون السياسي.. تونس نموذجاً

Photo

كنا نقرأ عن أغنياء الحروب ثم عرفنا الذين يصطنعون الحروب ليجدوا من ورائها مكاسب، ومنهم دول قامت ولا تزال على صناعة الحرب. لكن عشنا وباء كورونا وعرفنا أغنياء جدداً هم أغنياء الطواعين أو المتكسبون منها.

ولا نعني هنا من يُعتقد أنهم صنعوا الوباء ونشروه ليغنموا، فنظرية المؤامرة تطاوع التحليل، غير أنها لا تكشف كل الحقيقة. ولكن نكتفي بالنظر داخل وضع تونسي غير مؤثر في العالم ولكن يبرز داخله من يجد في الوباء مكسباً مادياً خصوصاً مكسباً سياسياً ما بعد زوال أزمة كورونا.

صغار النفوس يكسبون من الوباء

الحديث في وسائل الإعلام عن التراحم والتوادّ يختلط بشكل مؤسف بالحديث عن مطاردة محتكري الطعام والمضاربين فيه. يعرب أعوان المراقبة الاقتصادية عن سعادتهم بتقديم إحصائيات التدخل الرقابي ومنع الاحتكار والمضاربة، ولكن الرقم نفسه يكشف حجم لصوص الطعام الذين وجدوا في حاجة الناس وهشاشتهم منفعة فأذلوهم إذلالاً.

والأدهى أن بعض المسؤولين الجهويين مشارك مباشرة أو بواسطة في عمليات التلاعب بالطعام ويعينهم في ذلك أعوان الأمن المكلفون منع الاحتكار. لقد تم عزل معتمدين والتحقيق مع آخرين بجرم الاحتكار.

هذا ليس جديداً أو غريباً، فمع كل موسم يظهر هؤلاء بخاصة في شهر رمضان من كل عام، ولكن أن يتحول الوباء الرهيب إلى فرصة تربُّح فهو كاشف لنوعية من الناس لا يمكن حكمها أو الاطمئنان إليها إلا بالردع الأقصى، فهي لا ترتقي إلى حالة من طاعة القانون والتزام شروط التعايش الجماعي.

قياساً على محتكري الطعام (أو مجوعي الناس زمن الطاعون) نجد محتكري السياسة أو تجارها، ونراهم الآن يحاصرون الحكومة التي وجدت نفسها منذ الأيام الأولى للحكم في ورطة الوباء فلم تنجز شيئا مما وعدت، إذ وجهت كل إمكانية الدولة لمواجهة الآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية للكارثة.

في هذه المواجهة تظهر الحكومة منشغلة بالفئات الهشة والتي ستسقط في الهشاشة بحكم الركود الاقتصادي وتوقف النشاط الإنتاجي، لكنه في الواقع إعلانات انشغال تحاول إثبات حسن النية تجاه الفقراء أكثر مما تقدر على إثبات حسن الفعل لمصلحتهم.

الحكومة أسيرة فعلاً لطبقة قوية تملك المال وتصنع به النفوذ السياسي عبر شبكات الفعل الخفية التي ظنّ أنصار الثورة والتغيير أن قد كسروها فإذا هي لا تزال فعالة وتستخدم مواقعها للضغط ولا تخرج خاسرة أبداً، بل تربح المستقبل وتخطط لما بعد كورونا.

وقد كشفت حادثة وزير الصناعة هذا الجانب الخفي من إدارة السياسة في البلاد. وألخّص الواقعة لنصل إلى دلالاتها الكاشفة.

تحت مبرر ضغوطات الوباء والعلاج حصلت حكومة الفخفاخ على تفويض برلماني يسمح لها بالتشريع. لقد أحدثت فجوة قانونية قيل إنها حتمية في هذا الظرف. بالفجوة التشريعية أسقط العمل بقانون تنظيم الصفقات العمومية، بحيث سمح للحكومة بعقد صفقات مباشرة، وهنا تَسرَّب النظام القديم.

نائب في البرلمان عن حزب البديل (حزب مهدي جمعة رئيس حكومة 2014 الذي جاءت به النقابة والسفارة الفرنسية تحت غطاء الحوار الوطني) يملك شركات نسيج حوّلها لصناعة الكمامات يربط مع وزير الصناعة بمكالمة هاتفية فيفوز بصفقة صناعة مليونَي كمامة يحدّد الصانع سعرها على هواه، في نفس الوقت الذي تعلن فيه وزارة الصحة عن إجبارية حمل الكمامة.

ونكتشف أن النائب الذي أقسم اليمين لا يعلم أن قانون البرلمان يمنعه من المتاجرة مع الدولة ما دام يحمل صفة نائب برلماني، ونكتشف أن الوزير لا يعرف أن الصانع نائب في البرلمان، ثم نسمع رئيس الحكومة يبرر لوزيره ويدافع عنه ويقول للمعترضين على الصفقة إن كلامهم سفاسف وكلام فارغ، وإن وزيره فعل الصواب.

صفقة الوزير والنائب صرفت الأنظار عن فعال لصوص الطعام في الأرياف والأحياء الفقيرة لأن التحايل على الدولة والمواطنين يجري في مستويات أعلى وبحساب ملايين الدنانير.

بدت لنا الحكومة أسيرة عند هذه الفئة من رجال الأعمال والسياسيين الذين يتحركون في الظلام بخاصة بعد أن قررت الحكومة تخصيص مبالغ مالية كبيرة جداً لإقراض المؤسسات السياحية المتوقفة بشروط غاية في التيسير، في حين تجاهلت الخسائر التي تعرض لها الفلاحون وأصحاب الورشات الصغرى ممن توقفوا نهائياً عن العمل.

الحكومة الأسيرة لم تفلح في التحرر من قبضة المال، وكثير منه فاسد لا تعرف مصادره. لقد وصلت بسرعة إلى نهاية طريقها وسقط كثير من التعاطف الذي وجدته بحكم مواجهتها الوباء منذ يوم قبولها. يُكتب الآن في مواقع إعلامية كثيرة أن الفخفاخ ليس إلا النسخة الثانية من الشاهد، فلا شيء تغير في توزيع مواقع القوة وتعديل مستويات الفعل السياسي لإحداث توازن مصالح بين متكافئين.

الثورة لم تغيّر النظام بعد

كشف لنا الوباء طبيعة المتلاعبين بالقوت وبوعود الدعم والتعويض لخسائر أحدثها التوقف عن العمل (كضرورة وقائية وعلاجية)، وقد حاصروا الحكومة وضيقوا عليها (وهي لم تمانع وطاوعت لتضمن بقاءها).

الفاسدون في السياسة يقدمون الغطاء السياسي لمحتكري الطعام في الأطراف. وتخضع الحكومة رغم إطلاق يدها بالتشريع والردع، فلا تردع بل تتواطأ بما يكشف لنا وجه السياسة الحقيقي في تونس.

إننا أمام معادلة بسيطة: طبقة الفاسدين مالياً تسند طبقة الفاسدين سياسياً الذين يعتمدون على لصوص الطعام للضغط والتخويف، وتجمع الولاء بالرعب والطمع فتخضع الحكومات لأنها تكتشف بسرعة (بعد الخطاب الانتخابي الثوري) أن ضمان البقاء في الحكم ومنافعه الفردية مضمون بمراعاة مصالح الفاسدين القدامى والجدد لا في القضاء عليهم.

الوباء كشف أن الدولة لا تزال في قبضة التجمع (مرادف الفساد)، ويتوهم معارضو التجمع القدامى أن قد ملكوا معه موقع نفوذ وأنّ لهم تأثيراً على مجريات الحكم. وهو وهمٌ يريحهم وهم في واجهة السلطة يسهلون بجهلهم أو بخوفهم وطمعهم في بعض المنافع مواصلة الفاسدين حكم البلد (الفاسدون هنا مرادف التجمعيين).

ثلاثة تيارات سياسية عارضت نظام بن علي منذ ظهورها، بل هي أقدم منه عمراً، تجتمع الآن في حكومة إلياس الفخفاخ، لا لتنهي الفساد بل لتبرر له وتحميه باسم الظرف الصحي الطارئ الذي يتطلب تضامناً وطنياً، مستعملة نفس المصطلحات السياسية التي صاغ بها نظام بنعلي حياة البلد لمدة ربع قرن. إنه الطاعون السياسي الذي لا شفاء منه.

لا جدوى هنا من طرح الأسئلة الرومانسية: أين الثورة؟ وماذا فعلت؟ من وجهة نظر اجتماعية، الثورة لم تحدث قط، لنقُل لم تحدث بعد.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات