إنصاف

Photo

الأخ والصديق محمد الحامدي رجل كفء بكلّٰ المقاييس، أتى إلى المشهد السياسي الاجتماعي من باب النضال الديمقراطي والنقابي. وهو من القلة المتسيّسة في الطبقة السياسية، على معنى أن التسيّس هو إدراك لنظام العلاقات بمعناها الواسع وقدرة على تبيّن تقاطعاتها وتقدير اتجاهاتها. ولاختصاص الفلسفة أثر واضح في هذا.

ولمحمد تكوين فلسفي متين لا يعرفه إلاّ قلة من خلطائه. ويمكن ملاحظته في قدرته على ترجمته في خطاب سياسي واضح بطاقة تفسيرية وإقناعية عالية. وهو ما يغيب عند كثير من "الفلاسفة" لا فقط عند مدرسي الفلسفة في مستوياتها المختلفة ومحمد أحدهم. ذلك أنّٰ تخصصهم جعلهم سجيني "الكلي"، لا يقدرون على تبصّٰر أجزائه. فيأخذهم جمال الكلّيّ أي كماله ويبحثون له عن صورة في واقع محكوم بمساري العادات فيَتعبون ويُتعِبون.

لا أخشى على محمّد إلاّ السياق بـ"نقيضته السياسية" والافتقاد إلى نصيب السلطة الضروري للحكم وإنفاذ السياسات. وغياب "التعارف الشامل" وتواصل "معركة الوجود" باعتبارها أولوية عند البعض لها كل مبرراتها من المشهد السياسي ومن المحيط الإقليمي ورغبات الكبار المستدامة. لذلك لن نظفر بأكثر من حكومة تصريف أعمال، فضلا عما لملف التعليم من تعقيدات وتراكمات صار معها الحديث عن الإصلاح أقرب إلى النكتة. فلا أكثر من إيقاف الانهيار في مستويات منه وترميم لما يمثّٰل حاجة ومازالت له القدرة على الوقوف رغم تصدعه.

لا نوافق محمد كثير من الأمور، وله أخطاؤه مثل غيره، في سياق قال فيه الجميع أحزابا وفاعلين الرأي ونقيضه. فكذب جميعهم سياسيًّا مرّتين، وكادوا يتكافأون أخلاقيا، فزهّدوا الناس فيهم وأضعفوا أملهم في إصلاح ما تهدّم.

لم نستوعب موقفه في لحظة حاسمة من التأسيس ومساره، وروح الرجل التي أعرف تأسيسية في هذا المعنى وفي غيره. وبقي هذا الموقف عليه لا له. ولكن من لم تكن منهم أخطاء بل خطابا فليرمه بما شاء.

جمعتنا مربعات مشهودة في مناهضة الاستبداد، وتقابلنا في مرحلة التأسيس، فكان في فسطاط وكنت في فسطاط (الترويكا). فلم يكن للمسافة السياسية والتقدير المختلف أثر على رابط المودّة والقربى.

إيديولوجيا يمثّٰل محمد تأليفا جديدا، وإحراجا لجهات استولى كلّ منها على معنى وجعل منه "أصلا تجاريا" يصرف منه. وهذا شأن العناوين الإيديولوجيّة الكبرى الإسلامية والقومية والماركسية والليبرالية بيننا. فإذا عثرت على مسلم دون أن يكون إسلاميا ومؤمن بالعدالة الاجتماعية دون أن يكون ماركسيا ومنافح عن العروبة دون أن يكون قوميا وذائد عن الحريّة دون أن يكون ليبراليا فهو محمد الحامدي.

سيكون الاختبار الأساسي لصديقنا إذا تولّى الوزارة في علاقته بالمنظمة الشغيلة، فإذا تخطى ثنائية الولاء/العداء فقد نجح، وقد أمكن للأستاذ فتحي الجراي أن ينجح في بناء هذه المعادلة في العلاقة بقيادة الاتحاد وسياساته ومطالب القطاع، من ناحية، وملابسات الانتقال وبناء الديمقراطية، من ناحية أخرى.

وليس هذا بالأمر اليسير، فمنحدر محمد الحامدي النقابي وعلاقاته بالقطاع وبالمنظمة سيكونان عامل ضغط عال وعنصر إرباك فعلي. ولكن المعادلة ممكنة ما صحّ العزم.

هذه شهادة صديق لا يرجو جزاء ولا شكورا، دافعها الوفاءُ لمعنى مشترك جمعنا وتوجّٰسٌ عميق من دولة سكناها لفترة وجيزة فارقة فازدادت غربتنا. دولة لا تكف عن التهام القيم والإمعان في تحويل أهمّها إلى قوانين، وهي تجري لمستقر من نصيب العصبية الأقوى، وتصرّ على مركزيتها معتدّة بـ"مجتمعها المدني" غير مكترثة بمجتمع أهلي يدق بقوّة باب الحكم المحلي والمواطنة الكريمة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات